من بين ما كشفته الأزمة الأخيرة في جماعة الإخوان المسلمين هو حقيقة وزن ودور الإصلاحيين داخل الجماعة، ومدي قدرتهم علي الدفاع عن أفكارهم ومواقفهم في مواجهة المحافظين أو الصقور. فقد فوجئ الكثيرون برد فعل القطب الإصلاحي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح سواء أثناء الأزمة أو بعدها. وذلك نظراً لما هو معروف عن الرجل من جرأته وشجاعته في مواجهة أخطاء الجماعة وتشدّد بعض قيادييها.
وابتداء فإنه يظل من قبيل المبالغة أن يتم تقسيم الجماعة إلي تيارين أحدهما إصلاحي والآخر محافظ. ويظل ما يردده بعض المراقبين والمتابعين للشأن الإخواني بشأن تقسيم الجماعة إلي هذين التيارين ما هو إلا مجرد فرضية «وربما أمنية» أكثر منها حقيقة واقعة. فالأرجح أننا نتحدث عن تيار واحد عريض ذي درجات متفاوتة من المرونة والجمود، لكنه إجمالاً يقع ضمن فئة التيار المحافظ بجناحيه المتشدد «الدعوي» والمعتدل أو البراجماتي «السياسي». والحجج في هذا الصدد كثيرة، أولاها أن كلمة تيار في حد ذاتها إنما تنطوي علي وجود حركة إصلاحية عمودية متغلغلة في جميع أجيال وشرائح الجماعة ولديها القدرة علي اتخاذ مواقف واضحة، وذلك علي غرار ما هي الحال مع الكتلة المحافظة التي هي بالفعل متغلغلة داخل التنظيم ولديها شرائح وأجيال مختلفة داخل هيكل الجماعة. وهو ما يصعب القول به في حالة الإصلاحيين الذين لا يتعدون أصابع اليد الواحدة وجميعهم معروفون للعامة والخاصة.
ثانياً، إن وجود تيار إصلاحي يعني أن هناك رؤية إصلاحية واضحة المعالم، تتم ترجمتها في إطار أجندة فكرية أو برنامج سياسي ذي أبعاد محددة بحيث تمثل اختلافا حقيقياً وافتراقاً عن أفكار التيار المحافظ. وهو أمر يصعب القول بوجوده داخل جماعة الإخوان المسلمين. فأقصي ما يمكن الحصول عليه من أدبيات الرموز الإصلاحية داخل الحركة، هو مجرد أفكار إصلاحية متناثرة هنا وهناك دون انسجامها في خط فكري متماسك. ويظل الدكتور أبو الفتوح أكثر الشخصيات الإخوانية إنتاجاً للأفكار الإصلاحية، وهي أفكار علي حيويتها وأهميتها، إلا أنها لا تخرج عن إطارها الذاتي كما أنها تعكس شخصية الدكتور أبو الفتوح ذاته دون أن تمثل تياراً عاماً داخل الجماعة.
وإذا كان الدكتور أبو الفتوح يتبني رؤية سياسية متقدمة بشأن قضايا كثيرة مثل الديمقراطية والحريات العامة والدولة المدنية... إلخ، فإنه لم يمتلك القدرة علي تحويلها إلي برنامج تغيير تنظيمي داخل الجماعة. لذا فإنه كثيراً ما دفع ثمن مواقفه وأفكاره التي جلبت له الكثير من المشاكل توجت بإقصائه من مكتب الإرشاد.
وهي نفس الحال مع كل من الرمزين الإصلاحيين جمال حشمت وإبراهيم الزعفراني، فهما وإن كانا يحملان نفس النزعة الإصلاحية الموجودة لدي أبو الفتوح، فإنهما لا يتمتعان بالقدرة التنظيمية التي قد تمكنهما من بلورة تيار أو جناح موازٍ للمحافظين داخل الجماعة.
ثالثاً، بالرغم من جاذبية الأفكار والرؤي التي تطرحها الرموز الإصلاحية داخل الإخوان، فإنها لم تترجم عملياً في شكل بناء تكتل تنظيمي داخل الجماعة. بمعني أنها لم تنتشر بسهولة وسرعة داخل الجسد الإخواني، وذلك لسببين، أولهما هيمنة المحافظين، خاصة القيادات الوسيطة، علي مفاصل التنظيم وبالتالي سد المنافذ أمام تمرير أي أفكار إصلاحية أو علي الأقل مخالفة لأفكار المحافظين للمستويات القاعدية. وثانيهما، بسبب عدم قدرة الرموز الإصلاحية، وربما عدم رغبتها، في الدفاع عن أفكارها والمطالبة بضرورة طرحها علي الصف الإخواني. ناهيك عن نجاح المحافظين في تشويه صورة الإصلاحيين داخل الجماعة بسبب مواقفهم وهي إحدي العادات الإخوانية للتخلص من أي شخص لا ينسجم مع أفكار القيادات المحافظة.
رابعاً، إن الرموز الإصلاحية داخل الإخوان كثيراً ما تميل إلي تغليب مصلحة التنظيم علي حساب تطوير الجانب الفكري والسياسي للجماعة. وكثيراً ما تتذرع هذه الرموز بمسألة الصراع مع النظام كمبرر لعدم قدرتها علي طرح رؤيتها الإصلاحية بشكل قوي وفعّال علي المحافظين. وهي حجة قد تكون مقبولة مرحلياً، ولكن أن تظل بمثابة خيار استراتيجي لهذه الرموز فهو أمر غير مفهوم. فعلي سبيل المثال عندما تم طرح البرنامج الحزبي للجماعة في أغسطس عام 2007، لم تتخذ الرموز الإصلاحية موقفاً واضحاً من الثغرات التي وقع فيها البرنامج. صحيح أن أبو الفتوح وحشمت والزعفراني أبدوا اختلافهم مع بعض الأفكار الشاذة التي جاءت بالبرنامج خاصة مسألة هيئة العلماء والمرأة والأقباط، إلا أن ذلك لم يتم بشكل واضح وقوي داخل التنظيم وإنما جاء في شكل تصريحات صحفية هنا وهناك.
خامساً، والأهم، أن هذه الرموز الإصلاحية لا تتحرك بشكل جماعي، وإنما بشكل فردي وعلي استحياء. وهو ما وضح بقوة خلال الأزمة الأخيرة، فبالرغم من اتفاق الثلاثي الإصلاحي أبو الفتوح والزعفراني وحشمت علي أن ثمة شوائب ظهرت خلال انتخابات مكتب الإرشاد التي أجريت مؤخراً وذلك إلي درجة قد تشكك في نزاهتها وشرعيتها، إلا أنهم لم يتخذوا أي خطوة جماعية سواء لوقف هذه المهزلة الانتخابية أو للطعن في نتائجها. وتظل مواقفهم تعبر عن مناشدات علي استحياء لتدارك ما حدث، وذلك تحت ذريعة الحفاظ علي وحدة الجماعة وتماسك الصف. وهم يغفلون أن الصمت علي مثل هذه التجاوزات قد أضر، ولا يزال، بصورة الحركة وأكل من مصداقيتها بشكل غير مسبوق.
سادساً، بالرغم من أن أفكار الرموز الإصلاحية تلقي قبولاً لدي الجيل الشاب من الإخوان، فإن التواصل التنظيمي بين الطرفين يظل ضعيفاً للغاية. وكثيراً ما تعجبت من عدم قدرة هذه الرموز علي الاستفادة من المخزون الحركي لدي الشباب وتوظيفه لمصلحة التغيير والإصلاح داخل الجماعة.
لذا قد أصيب الشباب الإصلاحي داخل الجماعة بصدمة قوية بعد إجراء انتخابات مكتب الإرشاد ليس بسبب هيمنة المحافظين، فهذا كان متوقعاً، وإنما بسبب رد الفعل السلبي للرموز الإصلاحية خاصة الدكتور أبو الفتوح علي ما جري. ويشعر كثير من هؤلاء بحالة من «اليُتم» بعد خروج أبو الفتوح من مكتب الإرشاد وهو الذي كان يمثل لهم آخر بارقة أمل في إصلاح أحوال الجماعة العجوز.
وللحق، فإن آخر حركة إصلاحية حقيقية داخل جماعة الإخوان قامت داخل جماعة الإخوان تتمثل في مجموعة «حزب الوسط» التي كانت لديها رؤية إصلاحية واضحة، وطرحت أجندة فكرية وسياسية مغايرة تماماً للخط العام لجماعة الإخوان، ودفعت ثمن خروجها عن هيمنة المحافظين والانعتاق من أسر العمل التنظيمي من أجل الاندماج الكامل في الحياة السياسية، وذلك بغض النظر عما حدث معها لاحقاً من قبل النظام.
لكل ما سبق أستغرب كثيراً من اندهاش البعض من هيمنة المحافظين والتنظيميين علي انتخابات مكتب الإرشاد الأخيرة، وكأن الإصلاحيين كانوا يقودون الجماعة منفردين طيلة الفترة الماضية أو كأنهم كانوا الأغلبية داخل مكتب الإرشاد الذي لم يشهد أي انتخابات حقيقية خلال العقود الثلاثة الماضية إلا مرة واحدة عام 1995.
وباعتقادي أن الانتخابات الأخيرة لمكتب الإرشاد، وبقدر ما فيها من شوائب وأخطاء، إلا أنها لا تخلو من دلالات وفوائد كثيرة، أولاها أنها كشفت عن الحجم الحقيقي لما يُقال عن أنه تيار إصلاحي داخل الجماعة. وأثبتت يقيناً أن الجماعة علي كبر حجمها واتساع عضويتها فإنها لا تزال تعيش تحت وطأة التيار المحافظ وتفتقد وجود «رئة» إصلاحية حقيقية يمكن للكثيرين التنفس من خلالها.
ثانيها، أنه كان من الأفضل للإصلاحيين أن يظلوا صامتين خلال الأزمة الأخيرة بدلاً من أن يبرروا ما حدث وأن يدافعوا عن خيارات مجلس الشوري العام باعتبارها دليلاً علي الديمقراطية الداخلية. صحيح أن الولاء والالتزام التنظيمي يفرض عليهم عدم التعريض بالجماعة أو انتقاد المسئولين عن الأزمة الأخيرة، بيد أن الصمت علي أوضاع شاذة داخل الجماعة قد يفاقمها ويزيد من مشاكلها في المستقبل.
ثالثها، أن الخطر الحقيقي علي الجماعة خلال المرحلة المقبلة لن يأتي من النظام وإنما من داخل الجماعة ذاتها. فإذا صحت المقولات التي يروجها البعض بأن هناك نزوحاً قاعدياً باتجاه الأفكار السلفية، فقد تقع الجماعة في مأزق إعادة تبرير اعتدالها وسلميتها.
رابعها، والأهم، هو أن ثمة سؤالاً يطرح نفسه بقوة علي الجميع هو: لماذا لا تتوقف ماكينة التنظيم الإخواني عن ضخ وإنتاج أفكار وقيادات محافظة دون القدرة علي تقديم شخصيات إصلاحية حقيقية؟ وهو سؤال ربما يكون في حاجة إلي مقال آخر.
خبير في شئون الإسلام السياسي، جامعة دور هام، بريطانيا.