د . محمد سعد أبو العزم
" أي نعم ..فأنتم إخواني أيها الإخوان المسلمون، أنتم إخواني وطنًا وجنسًا، بل إخواني نفسًا وحسًا، بل أنتم لي إخوان ما أقربكم إخوانًا؛ لأنكم في الوطنية إخواني إيمانًا، ولما كانت الوطنية من الإيمان، فنحن إذن إخوان في الله الواحد المنان. فإذا كنتم أيها الإخوان المسلمون، قد فقدتم الحاكم الأكبر، الخالد الذكر، فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذي أسلم وجهه لله حنيفًا، قد أسلم روحه للوطن عفيفًا، حسبكم أن تذكروه حيًّا في مجده، كلما ذكرتموه ميتًا في لحده، وما من شك أن فضيلة الشيخ "حسن البنا" هو حي لدينا جميعًا في ذكراه، بل كيف لا يحيا ويخلد في حياته رجل استوحى في الدين هدى ربه، ففي ذكره حياة له ولكم. ومن ذا الذي يقول بهذا هو "مكرم عبيد" صديقه المسيحي، الذي عرف في أخيه المسلم الكريم الصدق والصداقة معًا، ولئن ذكرت فكيف لا أذكر كم تزاورنا وتآزرنا إبان حياته، ولئن شهدت فكيف لا أشهد بفضله بعد مماته، وما هي – وأيم الحق – إلا شهادة صدق أُشْهد عليها ربى؛ إذ ينطق بها لساني من وحى قلبي".
هذه الكلمات خطها الزعيم الوطني الراحل "مكرم عبيد" في مجلة الدعوة -لسان حال جماعة الإخوان المسلمين- في الذكرى الثالثة لرحيل الأستاذ "حسن البنا" مؤسس الجماعة، وهي الكلمات الخالدة التي تعبر بصدق ووضوح عن منهج "مكرم" في التعامل مع الطرف الآخر للوطن، ورؤيته في قضية الوحدة الوطنية، والتي وضع إطارها النظري، ثم جعلها في موضع التنفيذ، ليحل بذلك الإشكالية التي يراها البعض صعبة، في الالتزام بمبادئ وتعاليم الدين، مع الحفاظ على متطلبات المواطنة واحترام حقوق الطرف الآخر، وهو بذلك يقدم لنا نموذجًا يحتاج منا إلى وقفة وفهم، لنعرف كيف يمكن التعامل مع مثل تلك القضايا الحساسة.
البداية كانت من خلال فهم "مكرم عبيد" الدقيق والواضح للعدو الحقيقي، وإلمامه بتفاصيل معركة الحرية التي خاضها، ويخوضها من بعده كل من يسعى للإصلاح، وتغيير حال الوطن إلى الأفضل، فالعدو من دون شك ليس في الداخل، وهو يعتبر "أننا في معاركنا الداخلية أشبه بالسمك، يرتطم في شباك الصياد فيحسب نفسه في عراك، فإذا كان هذا هو الجهاد، أو ما انتهى إليه في نظرنا هدف الجهاد، فهنيئًا بالصيد للصياد". وفي العام 1938 يعلق "مكرم عبيد" وسام شرف جديد على صدره، عندما يرفض أمام عصبة الأمم الاعتراف بأن المسيحيين في مصر أقليات، أوفي حاجة لحماية أي دولة غربية، وعارض أن يربط انضمام مصر لعضوية المنظمة الدولية، بتعهد الحكومة المصرية بكفالة حقوق الأقليات، فمثل هذا التعهد قد يساء فهمه، وربما يتم استغلاله ضد مصلحة مصر عندما يراد التدخل في شؤونها. بل وأكثر من ذلك فقد قام بقيادة الأقباط نحو رفض أي تعديلات في دستور 1923، بما يضمن تمثيل نسبي للأقباط في البرلمان، لأنه اعتبر أن فكرة هذا التمثيل هادمة للوحدة الوطنية، وموجبة للتفريق بين أفراد الشعب، وأكد على تضامن الأقباط مع المسلمين في مطالبهم بإلغاء الفكرة.
عرف عن "مكرم" إتقانه الشديد للغة العربية، وتطويعها لمنطقه وأفكاره، وما زال البعض يحفظ خطبه وحكمه عن ظهر قلب، ومن بين ما نسترجعه الآن قولته الشهيرة: "نحن مسلمون وطنًا، مسيحيون دينًا" وهي ليست من المجاملات كما يظن البعض، وليست من المحسنات اللفظية كما يظن آخرون، لكنها تعبير عن فهم حقيقي للتفاعل بين الإسلام والمسيحية، في ظل وحدة اللغة والثقافة والحضارة في هذا الوطن ، ويخطئ من يظن أن تلك الفترة التي عاشها "مكرم" لم تكن تخلو من المنغصات الطائفية، أو من بعض الحوادث والاشتباكات التي تحدث كل فترة بين المسلمين والأقباط، ولكنه كان يتميز بإجادته التعامل مع مثل هذه المواقف، فحين حدثت في أيامه تلك المواجهة التي أثارها بعض الموظفين الأقباط، نتيجة إحساسهم بالتمييز بسبب ديانتهم، وهضم حقوقهم، حينها لم يلعب "مكرم" على الوتر الطائفي لتحقيق مصالح شخصية في الأوساط القبطية، وإنما خطب في جموع الموظفين وأعلنها صريحة "أنه من الحرام أن تثار مسألة قبطي ومسلم بعد أن قبرناها، وغسلنا ما خلفته من أرجاس، بدماء شهدائنا الزكية، فكلنا مصريون وطنًا ودمًا وشعورًا، ومن العبث تكبير مثل هذه الحوادث التافهة، ومحاولة استغلالها، فما هي إلا زوبعة في فنجان، وليعلم الناس قاطبة أن اتحادنا- أستغفر الله بل وحدتنا- قد أصبحت مضرب الأمثال عند أمم الشرق جميعًا، بعد أن عجزت الحوادث والتجارب عن أن تنال منها منالاً، فقد كنا وسنكون جميعًا مصريين لمصر، وإذا استدعى الأمر.. فأنا أطلب منكم أن تأخذوا دمي فدية، واتركوا وحدتنا سليمة، ولئن غاظكم أن أكون أكثر احترامًا للنبي الكريم من بعضكم، وأن أرى في رسول الله أسوة حسنة للناس يتشبهون به في أمانته، وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق، لئن غاظكم ذلك.. ولم يغظكم إخلاصي لوطني، فاطلبوا إلى الله أن يهبكم شيئًا من الإخلاص، وهو تعالى مصدر الإخلاص، واذكروا ما جاء في الحديث القدسي "الإخلاص سر من أسراري، أودعه قلب من أشاء من عبادي"
انتهى كلام مكرم عبيد والذي يوضح مدى فهمه لقضية الوحدة الوطنية وتفاعله معها، ولعل استدلاله الدائم بالقرآن والسنة ليس مستغربًا، فقد وصفته الأستاذة "منى مكرم عبيد" في كتابها القيم "مكرم عبيد كلمات ومواقف" بأنه كان مطلقًا قارئًا حافظًا للقرآن الكريم، والأحاديث النبوية، بجانب حفظه للتوراة والإنجيل، ولذلك فلا نستغرب أن يحظى بشعبية هائلة، وقبول وحب من جميع أطياف الشعب، وخير دليل على ذلك اكتساحه للانتخابات التشريعية في محافظة "قنا" مسقط رأسه، أمام منافسه "أحمد ياسين" في انتخابات حقيقية ونزيهة، وذلك على الرغم من وجود النزعات الطائفية والعصبية العائلية المعروفة في صعيد مصر.
كثيرة هي الرسائل التي يوجهها "مكرم عبيد" لنا الآن، لنفهم كيف نتعامل مع الواقع وندير بوصلة الوطن في اتجاهها الصحيح، لقد قدم "مكرم" لكل قبطي المعنى الحقيقي للمواطنة، وقيمة الانتماء للحضارة الإسلامية، كما قدم لكل مسلم البرهان على أن حب الوطن وتقديم التضحيات ليس حكرًا على ديانة بعينها، وبالرغم من مرور عشرات السنين على رحيله، إلا أن كلماته لا تزال تحيا بيننا، وسيظل دعاؤه خالدًا: "اللهم دينًا عن الدنيا، أو فارفع دنيانا إلى مستوى الدين، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارًا، ونحن النصارى لك وللوطن مسلمين".
البداية كانت من خلال فهم "مكرم عبيد" الدقيق والواضح للعدو الحقيقي، وإلمامه بتفاصيل معركة الحرية التي خاضها، ويخوضها من بعده كل من يسعى للإصلاح، وتغيير حال الوطن إلى الأفضل، فالعدو من دون شك ليس في الداخل، وهو يعتبر "أننا في معاركنا الداخلية أشبه بالسمك، يرتطم في شباك الصياد فيحسب نفسه في عراك، فإذا كان هذا هو الجهاد، أو ما انتهى إليه في نظرنا هدف الجهاد، فهنيئًا بالصيد للصياد". وفي العام 1938 يعلق "مكرم عبيد" وسام شرف جديد على صدره، عندما يرفض أمام عصبة الأمم الاعتراف بأن المسيحيين في مصر أقليات، أوفي حاجة لحماية أي دولة غربية، وعارض أن يربط انضمام مصر لعضوية المنظمة الدولية، بتعهد الحكومة المصرية بكفالة حقوق الأقليات، فمثل هذا التعهد قد يساء فهمه، وربما يتم استغلاله ضد مصلحة مصر عندما يراد التدخل في شؤونها. بل وأكثر من ذلك فقد قام بقيادة الأقباط نحو رفض أي تعديلات في دستور 1923، بما يضمن تمثيل نسبي للأقباط في البرلمان، لأنه اعتبر أن فكرة هذا التمثيل هادمة للوحدة الوطنية، وموجبة للتفريق بين أفراد الشعب، وأكد على تضامن الأقباط مع المسلمين في مطالبهم بإلغاء الفكرة.
عرف عن "مكرم" إتقانه الشديد للغة العربية، وتطويعها لمنطقه وأفكاره، وما زال البعض يحفظ خطبه وحكمه عن ظهر قلب، ومن بين ما نسترجعه الآن قولته الشهيرة: "نحن مسلمون وطنًا، مسيحيون دينًا" وهي ليست من المجاملات كما يظن البعض، وليست من المحسنات اللفظية كما يظن آخرون، لكنها تعبير عن فهم حقيقي للتفاعل بين الإسلام والمسيحية، في ظل وحدة اللغة والثقافة والحضارة في هذا الوطن ، ويخطئ من يظن أن تلك الفترة التي عاشها "مكرم" لم تكن تخلو من المنغصات الطائفية، أو من بعض الحوادث والاشتباكات التي تحدث كل فترة بين المسلمين والأقباط، ولكنه كان يتميز بإجادته التعامل مع مثل هذه المواقف، فحين حدثت في أيامه تلك المواجهة التي أثارها بعض الموظفين الأقباط، نتيجة إحساسهم بالتمييز بسبب ديانتهم، وهضم حقوقهم، حينها لم يلعب "مكرم" على الوتر الطائفي لتحقيق مصالح شخصية في الأوساط القبطية، وإنما خطب في جموع الموظفين وأعلنها صريحة "أنه من الحرام أن تثار مسألة قبطي ومسلم بعد أن قبرناها، وغسلنا ما خلفته من أرجاس، بدماء شهدائنا الزكية، فكلنا مصريون وطنًا ودمًا وشعورًا، ومن العبث تكبير مثل هذه الحوادث التافهة، ومحاولة استغلالها، فما هي إلا زوبعة في فنجان، وليعلم الناس قاطبة أن اتحادنا- أستغفر الله بل وحدتنا- قد أصبحت مضرب الأمثال عند أمم الشرق جميعًا، بعد أن عجزت الحوادث والتجارب عن أن تنال منها منالاً، فقد كنا وسنكون جميعًا مصريين لمصر، وإذا استدعى الأمر.. فأنا أطلب منكم أن تأخذوا دمي فدية، واتركوا وحدتنا سليمة، ولئن غاظكم أن أكون أكثر احترامًا للنبي الكريم من بعضكم، وأن أرى في رسول الله أسوة حسنة للناس يتشبهون به في أمانته، وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق، لئن غاظكم ذلك.. ولم يغظكم إخلاصي لوطني، فاطلبوا إلى الله أن يهبكم شيئًا من الإخلاص، وهو تعالى مصدر الإخلاص، واذكروا ما جاء في الحديث القدسي "الإخلاص سر من أسراري، أودعه قلب من أشاء من عبادي"
انتهى كلام مكرم عبيد والذي يوضح مدى فهمه لقضية الوحدة الوطنية وتفاعله معها، ولعل استدلاله الدائم بالقرآن والسنة ليس مستغربًا، فقد وصفته الأستاذة "منى مكرم عبيد" في كتابها القيم "مكرم عبيد كلمات ومواقف" بأنه كان مطلقًا قارئًا حافظًا للقرآن الكريم، والأحاديث النبوية، بجانب حفظه للتوراة والإنجيل، ولذلك فلا نستغرب أن يحظى بشعبية هائلة، وقبول وحب من جميع أطياف الشعب، وخير دليل على ذلك اكتساحه للانتخابات التشريعية في محافظة "قنا" مسقط رأسه، أمام منافسه "أحمد ياسين" في انتخابات حقيقية ونزيهة، وذلك على الرغم من وجود النزعات الطائفية والعصبية العائلية المعروفة في صعيد مصر.
كثيرة هي الرسائل التي يوجهها "مكرم عبيد" لنا الآن، لنفهم كيف نتعامل مع الواقع وندير بوصلة الوطن في اتجاهها الصحيح، لقد قدم "مكرم" لكل قبطي المعنى الحقيقي للمواطنة، وقيمة الانتماء للحضارة الإسلامية، كما قدم لكل مسلم البرهان على أن حب الوطن وتقديم التضحيات ليس حكرًا على ديانة بعينها، وبالرغم من مرور عشرات السنين على رحيله، إلا أن كلماته لا تزال تحيا بيننا، وسيظل دعاؤه خالدًا: "اللهم دينًا عن الدنيا، أو فارفع دنيانا إلى مستوى الدين، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارًا، ونحن النصارى لك وللوطن مسلمين".