بقلم الدكتور السيد ولد أباه
عكست الخلافات الحادة بين قيادة "الأخوان المسلمين" في مصر التي ظهرت للسطح خلال انتخاب المرشد الجديد للجماعة، الأزمة العميقة التي تعاني منها الحركة الأم للتيارات الإسلامية السُنية.
وكان أحد قادة الجماعة، قد دعا مؤخراً إلى وقفة مراجعة جريئة لأولويات واستراتيجيات الحركة، معتبراً أنها فشلت في برنامجها السياسي، ولم تطور مشروعها الفكري، ولم تقدم إضافات نوعية في الدراسات الشرعية والفقهية.
لكن ما غاب عن القيادي "الإخواني" هو أن هذه المراجعة يجب أن تطال المشروع الإسلامي في مقوماته الفكرية وأسسه المنهجية ذاتها.
من هذا المنظور، تتعين الملاحظة أن الفكر الإسلامي المعاصر أضاع في السابق فرصاً حقيقية للانطلاق، وهو اليوم في اتجاه إضاعة إمكانات متاحة للتجدد والمراجعة الذاتية.
كانت الفرصة الضائعة الأولى يوم أُحجم في بدايات ومنتصف القرن الماضي عن مشروع "محمد إقبال"الفلسفي، واختار بدلًا منه مشروع كاتب باكستاني آخر هو الداعية السلفي "أبو الأعلى المودودي". تتجلى الفروق بين الرجلين في محاور ثلاثة:
- في حين قام مشروع "تجديد الفكر الديني" لدى إقبال على مفهوم "الحركة"، الذي اعتبره مفتاح نظرة الإسلام للكون ومعيار تأويل النص، اتسمت نظرة المودودي بالنصانية المغلقة بذريعة الاستناد لمرجعية السلف، ورفضاً لكل عدة تأويلية جديدة.
- في حين دعا إقبال إلى الانفتاح على الفلسفات الحديثة، التي كان شديد التشبع بها، معتبراً أنها توفر للفكر الإسلامي إمكانات نظرية خصبة،كرس المودودي مقولة "الغزو الثقافي"، التي تنظر للفكر الإنساني الحديث كمجرد تيارات هدامة أنتجها اليهود والصليبيون لتحطيم الإسلام والقضاء عليه.
- في حين دعا محمد إقبال إلى تجديد الجوانب التشريعية والقانونية في الفقه الإسلامي من منظور مقاصدي منفتح، بلور المودودي مقولة "الحاكمية"، التي أخرجها من مفهومها الكوني الذي ضبطه المفسرون الأوائل (تحكم الله في كونه وخلقه)، لتصبح إطاراً مرجعياً لنظرية سياسية للحكم، أفضت تلقائياً إلى أعتى النزعات التكفيرية المتطرفة الراهنة. وهكذا ضاع مشروع "إقبال"، الذي لم يعد يستثير اهتماماً يذكر في الفكر الإسلامي المعاصر.
وقد أضاع هذا الفكر فرصة ثانية بعزوفه عن الإمكانات النظرية الخصبة التي حملها مشروع المفكر الجزائري "مالك بن نبي"، مستبدلاً إياه بكتابات "سيد قطب"، التي هيمنت على الأيديولوجيا الإسلامية منذ ستينيات القرن الماضي.
لم تكن لبن نبي ثقافة "إقبال" الفلسفية والقانونية ولا جرأته الفكرية، بيد أنه كان واعياً أشد الوعي بحقيقتين بارزتين هما: أن موضوع النهضة يقتضي إحداث تحول تاريخي نوعي في الثقافة والمسلك الاجتماعي لا يمكن للمسلمين تجنبه، ولم ير فيه ما يتعارض مع ثوابت دينهم، وأن لا قيام للدائرة الإسلامية خارج كتلة جنوبية واسعة (محور باندونج) توفر لهم أفقاً استراتيجياً موازيا لمركز النظام الدولي المتمحور حول القطبين المتصارعين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي).
في مقابل هذا التصور العقلاني الاستراتيجي، اختار الإسلاميون منهج "القطيعة" و"العزلة" إزاء مجتمعهم وعالمهم، وتبنوا أطروحة "قطب" في الحاكمية والنزوع الانقلابي للطليعة المؤمنة.
وعلى الرغم من الوعي المتزايد بالآثار الفادحة التي خلفها هذا الموقف فكرياً وسياسياً، فإن الخطاب الإسلامي السائد يبدو في أكثر نسخه "اعتدالا" و"انفتاحاً" محجماً عن فرصة راهنة متاحة للمراجعة الذاتية والانطلاقة المتجددة.
استبدل الإسلاميون خطاب سيد قطب بكتابات المفكر المصري الراحل "عبدالوهاب المسيري" الغزيرة ، التي تعتبر اليوم المرجع الأكثر تجدداً وانتشارا لدى التيارات الإسلامية السياسية.
صحيح أن الرجل واسع الثقافة، لبق العبارة، معتدل المواقف، لم ينتم لتيار تنظيمي بعينه، بيد أن مشروعه النظري يعاني من ثغرتين جليتين هما:
أولاً: قراءته للحداثة من منظور "العلمانية الشاملة"، التي تعني بالنسبة له "الرؤية المادية والعدمية "للطبيعة والإنسان. فهذا التصور الثقافوي المشط لحركية الحداثة يكرس من منطلقات جديدة نفس المقاربة الانفصالية المنغلقة التي طبعت نظرة التيار القطبي للحداثة "الغربية"، فضلاً عن كونها تتضمن أغلاطاً فادحة في قراءة الفكر الغربي الذي يبدو انه ولج إليه من بوابة النقد الأدبي الضيقة (كنظرته السطحية لداروينية نتشه ويهودية دريدا..).
ثانياً:محاكمة الاتجاهات ما بعد الحديثة في الفلسفة والعلوم الإنسانية من منظور مرجعيات الحداثة (الدفاع عن العقل الكوني، وأحادية المعنى وثبات الطبيعة الإنسانية) مع الاستناد إلى هذه الاتجاهات بصفة غير واعية في الدفاع عن فكرة "الحداثة الإسلامية"، التي لا معنى لها إلا في سياق القول العقلانيات والتأويليات المتعددة. وهكذا يصبح البديل الذي يقدمه "المسيري" مزيجاً من حداثة ناقصة ومشوهة وما بعد حداثة خفية وملتبسة.
ومن الواضح أن الإسلاميين يقبلون على كتابات المسيري لما تولد لديهم من وهم القدرة على مقارعة الفكر الغربي من الداخل وبنفس المنطق والبرهان، في حين أنها صياغة نظرية راهنة للمقاربة القطبية نفسها.
وقد فات التيارات الإسلامية الاستفادة من ما تعرفه الفلسفة الإسلامية راهناً من مظاهر إبداع وتجديد، من تجلياتها:
- مشروع "طه عبدالرحمن " الساعي لتجديد الدين من خلال نهضة عقلانية تستخدم الأدوات الكونية في النظر، لاستثمار آفاق المجال التداولي الإسلامي.
- هرمنوطيقا "عبد الكريم سروش" الساعية لتحرير معين الدلالة في النص الإسلامي، من منظور القارئ الراشد المنتج للمعنى.
- مشروع المفكر السنغالي "بشير سليمان ديان" الساعي لاستئناف الإبداع الفلسفي في الإسلام من منظور الأدوات الابستمولوجية الجديدة.
تحمل هذه المشاريع إمكانات نظرية خصبة للخروج من مأزق الأيديولوجيا الإسلامية شرط القراءة المتمعنة والتحرر من آفة التبسيط ومزالق التعبئة.
النص الأصلي للمقال بجريدة الاتحاد الإماراتية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق