الأربعاء، 10 نوفمبر 2010

علي شريعتي ..مفكر في قلب الثورة


 

علي شريعتي مفكر إيراني شيعي مشهور. اسمه الكامل: علي محمد تقي شريعتي. ولد قرب مدينة مشهد عام 1933، وتخرج من كلية الآداب بها عام 1955، ليُرشح لبعثة لفرنسا عام 1959 لدراسة علم الأديان وعلم الاجتماع ليحصل على شهادتي دكتوراه في تاريخ الإسلام وعلم الاجتماع. انضوى في شبابه في حركة مصدِّق وعمل بالتدريس واعتقل مرتين أثناء دراسته بالكلية، ثم بعد عودته من فرنسا، حيث أسس عام 1969م حسينية الإرشاد لتربية الشباب، وعند إغلاقها عام 1973 اعتقل هو ووالده لمدة عام ونصف. ثم سافر إلى لندن، واغتيل عام 1977 قبل الثورة الإيرانية بعامين عن 43 سنة. الرأي السائد أن ذلك تم على يد مخابرات مخبارات الشاه كما ايد ذلك حسن العلوي في كتاب عمر والتشيع. يعتبر الدكتور علي شريعتي نموذج فريد من مفكري إيران. حيث أنه بالرغم من أنه فارسي العرق، لم يكن يتوقف عن نقد النزعة الشعوبية لدى رجال التشيع الصفوي، بطريقة أكثر جذرية من غالب من تصدَّى لهذا الموضوع من الأدباء العرب. وقد بَيَّن آلية المزج في الموروث الشيعي الروائي ما بين السلطة الإيرانية الساسانية والنبوة الإسلامية، حيث اختُلِقَتْ الروايات ونُسِجَتْ الأساطير وعلاقات المصاهرة بين إمام الشيعة الحسين بن علي وبنت كسرى المزعومة: لتحقيق غرض الوصل بين السلسلة السلطانية الساسانية وبين السلطة الإمامية الشيعية، ولبعث العناصر الفارسية في صلب التشيع.

وبالرغم من كونه شيعياً متعصباً (يصف مجموعة من كبار الصحابة بأنها باعت شرفها وجمعت نقودها ببيع كل حديث بدينار) فلا فائدة في رأيه من الشعائر والطقوس الحسينية التي يتهم الحكامَ الصفويين بأنهم اقتبسوها من المحافل المسيحية في أوروبا الشرقية التي كانت تحيي فيها ذكرى شهدائها، وبأنهم حولوا الإمام الحسين إلى صورة عن آلام Passion المسيح. وحتى يتم صبغ هذه الطقوس والشعائر بالصبغة الإيرانية، أدخل الملالي عليها بعض التعديلات لتوافق الذوق الشعبي الإيراني وجعلوها موائمة للأعراف والتقاليد الوطنية والمذهبية في إيران. أما لغة هذه الطقوس فهي لغة التصوف وأعمال الدراويش ومبالغات خطباء المنابر وشعراء العامة.

 

رؤيته للتقريب المذهبي

كان من اللازم في ظل ما تعيشة الأمة من تفتت وانقسامات وتشردم وخلافات بل وحروب يطفو المذهبي فيها علي السياسي أن نستعيد ونستذكر بعض الأصوات العاقلة الهادئة عسي أن تكون هذه الكلمات حجراً في بركة راكدة.

يُعد فيلسوف الثورة الإسلامية في إيران الشهيد الدكتور علي شريعتي الملقب ب"المعلم" واحداَ من القلائل الذين تجردوا عن هوي التمذهب والتشدد أو التخاصم، وسعي بكل ما أوتي من قوة إلي لملمة الصفوف تجاه الوحدة بل إنه قد خصص كتابا يُعد معلما من معالم الفكر الشيعي في العصر الحديث ألا وهو " التشيع العلوي والتشيع الصفوي".

ولد علي بن محمد تقي شريعتي في مزيتان في منطقة خراسان عام 1933 نشأ في أسرة متدينة معروفه بالفقه والعمل، ونشط وهو في الثانوية العامة في التيار الذي قاده رئيس الوزارء السابق مصدق ثم تخرج بتفوق من كلية الآداب ليُرسل في بعثة دراسية لفرنسا، ويحصل علي الدكتوراه واحده في علم الاجتماع الديني والأخرى في تاريخ الإسلام، وهناك كان علي اتصال بجبهة التحرير الجزائرية والتقي مفكرى فرنسا البارزين أمثال فرانز فانون وسارتر، ثم عاد الي إيران ليؤسس"حسينية الإرشاد" وهو المعهد الذي هاجم فيه تعصب رجال الدين من الشيعة ضد السنة، ثم مالبث أن أعتقل مرات في فرنسا وفي إيران لتبنيه أفكاراً إصلاحية ثورية كبناء الدولة الإسلامية وإعادة صياغة الذات والمجتمع اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا علي نحو إسلامي حقيقي، كما اهتم بجوهر المساواه والعدل وتنقيه الإسلام مما شابه عبر القرون، خلف لنا حوالي مائة وعشرون (120) عملاً ما بين الفلسفي والأدبي والاجتماعي والسياسي كلها تتخذ من الإسلام القبس، استشهد في لندن علي يد جهاز المخابرات التابع للشاه- آنذالك- السافاك عام 1977

يشيد كاتبنا بالرؤية التي يتمتع بها شيخ الأزهر السابق محمود شلتوت وإخوانه في تدعيم حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية ويصف هذا الدور بأنه واع ومسئول، هذا بخلاف وجود النفوس العالية التي تأبي الهزيمة أمام دسائس المتصيدين في الماء العكر من أعداء الداخل والخارج.


 انتشار العدوين وانحسار الأخوين

يعزو شريعتي انتشار الخلاف والخصام المذهبي إلي ما يُسميه انتشار العدوين المتآخيين "التشيع الصفوي والتسنن الأموي" وانحسارالأخوين " التشيع العلوي والتسنن المحمدي"، فما هو التشيع الصفوي والتسنن الأموي؟

التشيع الصفوي: نسبه الي الدولة الصفوية التي حكمت إيران وزعمت انحدارها من نسل الإمامة لتُضفي شرعية زائفة علي سلطتها الزمنية، ويري المعلم أن الحركة الصفوية ورجال الدين المرتبطين بها عملوا علي إضفاء الطابع المذهبي وبعث القومية الإيرانية والوطنية لتبدو في صورة وشاح ديني أخضر، وركزت أجهزة الدعاية الصفوية علي نقاط الإثارة والاختلاف بين السنة والشيعة وأهملت نقاط الاشتراك، وحرصت علي تعطيل أو تبديل أو إهمال الشعائر والسنن والطقوس الإسلامية المشتركة بين المسلمين، ويرفض ماكانت تقوم به هذه الدولة عبر رجالها الذين كانوا يجوبون الشوارع ويُرغمون المارة والعامة علي لعن الشيخين "أبي بكر وعمر"، ويصف هذه الأعمال ب"الوحشية والإرهابية" ويؤكد أن السباب والشتيمه واللعن هما من منطق التشيع الصفوي، ويرمي شريعتي هذا النوع من التشيع بأنه "تشيع الجهل والفرقة والبدعة، وتشيع المدح والثناء للسلطات، وتشيع الجمود والركود بتأدية طقوس عبادية ومذهبية دخيله علي التشيع الأصيل، وهو تشيع ندب الحسين، وتشيع يُعطل مسؤليات المسلم، وهو تشيع للفكر الصفوي الدخيل".

التسنن الأموي:الذي يستغل عنوان المذهب السني لتمرير المخططات الرامية لفرض الهيمنة علي مقدرات الشعوب، وتبرير أعمال السلاطين، والتبرع بالأحكام والفتاوي الجاهزة، لتتناغم مع التوجه الرسمي للحكومات، ف"التشيع الصفوي" وقرينه "التسنن الأموي" كلاهما مذهب اختلاف وشقاق، والحقد والضغينة هي من خصائصهما، لأن كليهما يمثلان الإسلام الرسمي، وكلاهما دين حكومي، الأول لتبرير الحكم الصفوي والثاني لتبرير الوجود الأموي في موقع الخلافة.

وبكل شجاعة وندرة يُصرح الشهيد أن "كل رموز التشيع الموجود في إيران وشعائره، رموز مسيحية ومظاهر مسيحية، أدخلها الصفويون علي يد طلائع الغزو الفكري الغربي، لكي يفصلوا إيران تماما عن الإسلام السني، الذي كان مذهب الدولة العثمانية عدوتها التقليدية، كما أن الصفويين قد ارتكبوا ذلك الخطأ الفادح بالتحالف مع الأوروبيين ضد العثمانيين مما أودي بإيران وبالدولة العثمانية معاً"، وينهي بقوله " ولو خرجت كل المظاهر الدخيلة علي التشيع فلن يبقي هناك أي خلاف يذكر بين مذاهب الإسلام".

ويرد مفكرنا علي التخاصم والتقاذف الحاصل بين أنصار التشيع الصفوي وبعض رجال التسنن الأموي بأن غرض هذه الأمور هي خلق الأحقاد بين المسلمين، واستغفال الأذهان لمسائل هامشية وقضايا مفتعلة، وكل مامن شأنه الإسائة إلي حقيقة الولاية، والشيع العلوي والمنهج الحسيني وتشوية صورة الحوزة العلمية الشيعية الكبري في أذهان الجيل المثقف.

أما "التشيع العلوي" فهو حركة ثورية، تمارس الجهاد فكراً وسلوكاَ، لتواجه الأنظمة ذات الطابع الاستبدادي والطبقي، وهذا التشيع يتبني إقامة العدل، ورعاية حقوق الجماهير المستضعفة، وهو تشيع الوحدة والسنة، فشعار هذه المدرسة هو ثقافة الاستشهاد ونشر الحق وإقامة العدالة، وإن الشيعي العلوي هو الذي يسير علي خطي ونهج الإمام علي بن أبي طالب.

ويخلص شريعتي إلي أن الحل في أسلوب الطرح، والنهج المتبع في المناقشة والاحتجاج، فالسبيل الوحيد الكفيل بتحقيق ذلك هو توفير قاعدة علمية مشتركة وراسخة بين الأَخوين المستعدَيَيْن " التشيع العلوي " و"التسنن المحمدي" لمواجهة العدوين المتآخيين " التشيع الصفوي" و" التسنن الأموي".

ويصل بشريعتي الأمر الي القول بأن" الاختلاف بين التشيع العلوي والتسنن المحمدي ليس أكثر من الاختلاف بين عالمين وفقيهين من مذهب واحد حول مسألة علمية... وأن التشيع العلوي والتسنن المحمدي طريقان متلاقيان من يسير في أحدهما لابد أن يأتي اليوم الذي يلتقي فيه مع صاحبه ليصبحا معاً وحدة واحده" وفي المقابل فإن " المسافة بين وجهي التشيع العلوي والتشيع الصفوي هي عين المسافة بين الجمال المطلق والقبح المطلق".


 نموذج علــي مؤســس "الوحدة الإسلامية"

يقدم الشهيد شريعتي شخصية الصحابي إمام المتقين ورابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب، كنموذج حي وراقي، لعملية تأسيس الوحدة الإسلامية والترفع عن الخلافات، والسعي المتواصل نحو التوحيد لا التشتيت، فيقول عن علي بن أبي طالب" كان أول من وضع حجر الأساس وأرسى قواعد الوحدة في المجتمع الإسلامي، أول من قدم القرابين وضحي، وتحمل أثقل ضريبة، ودفع أغلي الأثمان التي يمكن للإنسان الراقي والسامي لمستوي الكون أن يدفعها من أجل الوحدة" وهو يقدم شخصية الإمام باعتبارها باعثة علي التمسك بشعار الوحدة، وشعار التفاهم، وشعار المسيرة الواحدة، والصف الواحد ضد العدو الخارجي، بل إنه يسرد بعض الأمثلة التاريخية المعبرة عن المنطق المعتدل المنصف للتشيع العلوي كاستعانة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالإمام علي في بعض المسائل الفقهية أو المشكلات الحياتية، وهذا المنطق يضاهي في اعتداله منطق علماء التسنن المحمدي فمثلا كان علماء التسنن المحمدي يقرون بالفضل للإمام جعفر الصادق، وهذا الإمام الشافعي يعلن محبته لآل البيت، وذاك الإمام مالك بن أنس يرفض أن يُعمم علي المسلمين فقهه بقرار من الخليفة المنصور، ويعلن شيخ الأزهر محمود شلتوت عن فتواه بجواز التعبد بالمذهب الجعفري، هذه مجرد أمثلة يضعها كاتبنا ليوضح الفرق بين منطقين.


قيام إسلام رسالي أممي بلا مذاهب

يري الأخ الشهيد في المرحلة الثالثة من مراحل مشروعه الفكري النهضوي الكبير "العودة الي الذات الإسلامية" ضرورة العمل علي قيام إسلام عالمي أممي، لا تُكونه قومية أو عرقية أو نعرات مذهبية، بل يكون الإسلام الرسالي هو الجنسية وهو الوطن، ويعطي مثالاً ب"اتحاد الغرب الرأسمالي مع الغرب الشيوعي، وبالأمس كان اتحاد المسيحية والاستعمار أو توافق المسيح والقيصر" وبالتالي " فلابد من قيام العالمية الإسلامية" وينبغي أن "تسكت الخلافات المذهبية تماماً وأن تُدرك مصادرها وتبعاتها وعواقبها والأيدي التي تحركها، وهي الأيدي نفسها التي تحرك مبدأ فصل الدين عن السياسة وتقصد بالدين الإسلام فحسب".


 دور العلماء في النظر للآخر المذهبي

ينادي كاتبنا بأعلي صوته على العلماء من الطرفين فيخاطب علماء الشيعة ويقول " علي علماء ومفكري الشيعة أن يوضحوا أن أجهزة الدعاية للتسنن الأموي تستغل الأقاويل والمزاعم التي يتشدق بها رجالات التشيع الصفوي للإساءة إلي كل الشيعة، وتشويه صورتهم عند إخوانهم السنة، وفي المقابل فإن أجهزة دعاية التشيع الصفوي تفعل الشيء ذاته، فتقتنص أقاويل ودعاوي ومزاعم النواصب والوهابيين وتلصقها باسم السنة جميعا"

ويحث علماء السنه علي التحري والتروي فيقول" على العلماء المخلصين من السنة أن يفندوا هذه المزاعم ويدفعوا هذه الشبهات التي تثار ضد إخوانهم من الشيعة وليقولوا لأبناء جلدتهم أن الشيعة هم من صلب الإسلام لا غير، ليسوا أعداء للمسلمين، ولا حلفاء للصهاينة...لكي لا يقعوا في شرك الأعداء وينشغلوا عن معاداه اليهود والنصاري الذين تسللوا الي عقر دار المسلمين بمعاداة إخوانهم الشيعة".

هكذا رسم لنا شريعتي صورته عن التقريب بين أهل المذاهب بقبول الاختلاف وإحسان الظن والبعد عن التشنجات وإعادة قراءة التاريخ وأحداثه بصورة نقدية ومغربلة، كي لا نقع في خطيئة التراشق بالتكفير والزندقة وأن ننتبه الي ما ينسجه أعداء الأمة للوقيعة بين أصحاب الملة الواحدة.


حرب داخل الدين

لا يستطيع قارئ علي شريعتي، المفكر الإيراني الإصلاحي، في الذكرى الخامسة والعشرين لاغتياله على أيدي شرطة الشاه السرية، أن يحدِّد بوضوح موقعه الفكري، على الرغم من إسهاماته العميقة في تجديد النظرة إلى الدين. وهو، كأيِّ مفكِّر إشكالي، تقاطعت لديه رؤى متعارضة وثنائيات صعبة، فَرَضَها المشهدُ السياسيُّ والثقافي في لحظة تاريخية، هي حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين التي تعددت فيها الإيديولوجيات والتيارات الحزبية، وانتعشت التيارات اليسارية والشيوعية وحركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا، وظهرت إزاءها محاولات لاسترداد الهويات القومية والوطنية، من جهة، والهوية الإسلامية الجامعة، من جهة أخرى.

بعد ربع قرن من غيابه تلاحقت التطورات والإخفاقات والارتكاسات الفكرية، وانقلبت التيارات والأحزاب على نفسها، وانحسرت موجات التحرر الوطني، وارتفع صوت التفرقة على صوت الوحدة، وصوت المغالاة على صوت الاعتدال. أضحت الصورة أكثر تداخلاً وقتامة. وبهذا ازدادت مقاربة أفكار شريعتي صعوبة، لكنها اغتنت، مع ذلك، بدلالات جديدة وعِبَر مفيدة.

وقد قُرِئَ شريعتي عربيًّا في أعقاب الثورة الإيرانية، عبر ترجمات ضحلة وعبارات مرتبكة. إلا أن دُورًا، منها "دار الأمير" اللبنانية، سعت، احتفاءً بذكراه، إلى ترجمة جيدة لمجموعة آثار شريعتي الكاملة إلى العربية. ومن مفارقات هذا الرجل أن الثورة الإيرانية التي عبَّدت مؤلفاتُه طريقَها، باعتراف قادة الثورة أنفسهم، ما لبثت، بعد انتصارها وتسلُّمها زمام الدولة ومقاليد السلطة، أن أدارت له ظهرها أو قدَّمته إلى أجيال ما بعد الثورة بكثير من التردد والتوجس، لأن قراءته ثانية ستكشف، لا محالة، عن اختلالات عميقة في إيقاعات الثورة أو الدولة.

يمثل شريعتي، الذي كان يواظب على محاضراته في حسينية الإرشاد آلافُ الطلبة الجامعيين الإيرانيين، بإشكاليته الفكرية التي أثارت حفيظة الطبقة الدينية التقليدية وغضب السلطة الشاهنشاهية، مظهرًا من مظاهر أزمة المصالحة العسيرة بين العناصر المتنافرة في المجتمع الإيراني الذي كانت تتجاذبه تجلِّياتُ الأنماط السلوكية التغريبية والأفكار التحديثية، متزامنة مع ذيوع المقولات اليسارية والشيوعية ذات المنحى الكفاحي الإيديولوجي، من جهة، ومن جهة أخرى، عمق الهوية الشيعية الإيرانية في نفوس العامة وفي أركان المؤسسة الدينية التقليدية.

في ضوء هذا المسعى التصالحي حثَّ شريعتي على ضرورة اقتباس التجارب الغربية وتوظيف الوسائل الإعلامية، كالتلفزيون والمسرح والسينما، في شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، دون المساس أو التعارض مع الدين. بل لقد رأى أن هذه الوسائل تخدم الدين وتساعد على نشر الأفكار والعقائد والثقافة الإسلامية. ويصف شريعتي هذه المصالحة بأنها حضارية راقية، تعبِّر عن التقليد بشكله الإيجابي الواعي. أما التقليد الذي يستحق الإدانة والشجب، في نظره، فهو التقليد الأعمى.


التوفيق

ويمتص شريعتي الكثير من المقولات والمفاهيم المختلفة المنتزَعة من حقول الدراسات والعلوم الإنسانية الحديثة التي كان متضلعًا فيها، بحكم اختصاصه في جامعة السوربون في علم الاجتماع الديني وتعرُّفه على أساطين الفكر، مثل ريمون آرون وماسينيون وجاك بيرك وهنري ماسيه وسواهم. وهو يعيد توظيف هذه المفاهيم لبناء نظريته التوفيقية التي تؤالف بين التراث والعصر. لكن شريعتي لم يستطع حجب العناصر المقتبسة؛ وحيث أراد أن يكون معاديًا للماركسية، كما يقول داريوش شايغان في ما هي الثورة الدينية؟، مدَّ يده إلى جعبة مصطلحاتها ومقولاتها (ص 299). فشاعت في متون كتاباته الغزيرة كلمات مثل: "البنية التحتية" و"البنية الفوقية" و"الحتمية التاريخية" و"الجدلية" و"الطبقات المسحوقة" و"الفوارق الطبقية" و"أفيون الشعوب"!

كذلك استثمر، على المستوى نفسه، العبارات التراثية، مثل: "المستضعفين" و"المظلومين" و"البيعة" و"الوعاظ" و"الإمامة" و"الولاية"، والرموز الدينية، مثل: قابيل وهابيل وقارون وبلعام بن باعورا، واتكأ على الأسماء القرآنية، مثل: الطاغوت والتوحيد والشرك.

واقتبس شريعتي، الذي تعمق في فهم تاريخ الأديان، من أطروحة هنري برغسون تفريقَه بين "الدين المنغلق" و"الدين المنفتح"، ليستخدم هذا التفريق نفسه لبناء ثنائيته الشهيرة التي تميز بين "دين السلاطين" و"دين العامة"، وبين التشيع العلوي (الحق) والتشيع الصفوي (المنحرف).

وشريعتي، الذي ينظر إلى الغرب نظرة إعجاب وارتياب في الآن عينه، يقرُّ بالمسيرة العلمية التصاعدية التكاملية التي وصل إليها الغرب وتفوَّق فيها على الشرق. إلا أنه ينكر عليه تفوُّقه على الشرق في المواضيع الأخلاقية والمواضيع المعنوية! ومن منطلق أن الثقافة ذات خصوصية تكدست بمرور الأجيال المتعاقبة في تاريخ شعب من الشعوب، وصنعت الرأسمال المعنوي له، كان منطقيًّا لديه أن يدعو إلى العودة إلى الذات لإصلاحها من الداخل. ولا عجب إزاء هذا المنظور الذاتي أن نرى شريعتي يتقبَّل ما جاء في الجهاز المفهومي للعقيدة الشيعية التي أرساها منذ قرون طويلة علماءٌ مثل الطوسي والطبرسي والمفيد والمرتضى والحلي؛ لكنه يعيد قراءتها وتأويلها على ضوء علم الأديان الحديث وعلى ضوء المقولات السياسية اليسارية والإيديولوجية الكفاحية، فيعيد تفسير "الإمامة" و"العصمة" و"الوصاية" و"الولاية" و"التقية" و"الغيبة" و"الشفاعة" وكل المفردات العقائدية الشيعية، بعد أن يجرِّد هذه المقولات من بُعدها الميتافيزيقي ويقف على أبعادها الاجتماعية والسياسية، كاشفًا آلية استخدام هذه المقولات التي نيطت بالتشيع الصفوي لترسيخ نمط الحكم الشاهنشاهي، ومبلوِرًا ما يسميه محمد أركون "الإيديولوجيا التي تتكلم بلغة روحانية"، والمتزامنة مع "لاهوت التحرير" المسيحي في أمريكا اللاتينية.

في هذا المقام التأويلي التوفيقي نزع شريعتي، بخطوة متقدمة ودراية اجتماعية، مفهوم "الإمامة" من مباحث علم الكلام الإسلامي الكلاسي، باتجاهاته الفلسفية التجريدية التي أبقت هذا المفهوم داخل نطاق المقولات والدلالات النظرية والافتراضية، وأدخَلَه في صيرورة الواقع المأزوم وأروقة الاجتماع السياسي، "فاتحًا بذلك كثيرًا من الأبواب المغلقة في المعرفة الإسلامية"، حسب عبارة عبد الرازق جبران في كتابه عن علي شريعتي، مضيفًا بذلك إشكالية الإنسان الاجتماعي وحاجته إلى القيادة الرشيدة ومعتبِرًا الدورَ الاجتماعي معيارًا لجدوى الأفكار أو لتفاهتها. وبهذه النظرة الاجتماعية الواقعية للإمامة تملَّص شريعتي من ذيول المنازعات التي اشتجرت بين المسلمين الأوائل وأراقت الكثير من المداد والدماء، رافضًا الشورى والنص كليهما، ليجعل الخلافة قائمة، لا بالعوامل الخارجية، مثل الانتخاب أو التعيين أو النص الإلهي، غير مقتصرة على سلالة أو قبيلة أو فئة، بقدر ما هي حصيلة حقٍّ ذاتي ناشئ من ماهية الشخص، ومن تشخيص الجماهير له، وتقبُّل إطاعته، والاقتداء به عن قناعة لا يرقى إليها الشك.

وعلى ضوء هذا الاتجاه الاجتماعي وضرورة التصدِّي لمسائل العصر وقضاياه، ينتقد الكاتب أولئك الفقهاء التقليديين الذين ينكبُّون على ألف مسألة شرعية في آداب التخلِّي (الدخول إلى بيت الخلاء) دون أن يقدموا مسألة واحدة أو حكمًا شرعيًّا واحدًا يتعلق بالمصير المشؤوم الذي ينتظر الأمة والبلاد. وإذ يعتِّمون على حقوق الشعب، يستفيضون في الحديث عن حقوق السيد على عبده (!)، ويتجاهلون كل اللغط حول الرأسمالية والبرجوازية، والاقتصاد الاستعماري والعلاقات الطبقية، وحقوق العامل والمستثمر والفلاح، وصاحب الأرض، والمنتج والمستهلك، وفوائد رؤوس الأموال، إلى ما هنالك.

وبآلية القياس التي يتبناها شريعتي لإقامة علاقة تكافؤ بين بنيتين مختلفتين، وزمنين مختلفين، تقوم علاقة استمرارية بين حلقات الماضي وحلقات الحاضر. ويحاول توظيف هذه العلاقة ليوحِّد بين مصطلح "الحتمية التاريخية" ذي البعد الماركسي، والنزعة المهدوية النشورية، ويجعل من مستقبل التاريخ، المدفوع بحركة الصراع بين الطبقات، مدارًا لمسار مدفوع، هو الآخر، بحركة العدالة والعناية الإلهية، انتصارًا للحق على الباطل، وللمظلوم على الظالم، وللضحية على الجلاد.


دين ضد الدين

وتمثل هذه النظرية القياسية بين الثنائيات المتناقضة، القائمة على قانون التدافع البشري، وبين قاعدة اللامساواة والصراع والتعارض بين الاستكبار والاستضعاف، منذ بداية التاريخ البشري الذي دُشِّن بالجريمة الأولى التي اقترفها قابيل بحق أخيه هابيل، والمستمرة حتى اليوم – تمثل هذه النظرة جوهر المنظور التاريخي لعلي شريعتي. وحركة هذا الصراع الثنوي المانوي بين الشيطانية والملائكية، بين القطبية السلبية والقطبية الإيجابية، تتكرر عنده بأشكال وصور شتى، ما دام الماضي يماثل الحاضر، وما دامت حركة الصراع دائمة على مسرح الحياة البشرية.

وعلى قاعدة هذا التناقض يكشف شريعتي أن العالم الذي لا يعيش إلا في كنف الحضارات الدينية، لأن الدين بُعد أساسي في نشوء الأمم والمدنيات، يعاني من مواجهة دائمة وأساسية بين دين ودين. ومن هنا جاء عنوان كتابه: دين ضد الدين. أما الأول فهو "الدين المنفتح" الذي يلبِّي أشواق الناس وتطلعاتهم؛ والثاني هو "الدين المنغلق" على عقائده الجامدة المتحجرة الذي يستلب إرادة البشر. ويَسِمُ الدين الأول بأنه دين الوعي الثوري الاحتجاجي ذو الإيديولوجية الكفاحية؛ والثاني الدين المنحول والموروث والتقليدي، الخاضع لمصالح الثالوث السلطوي، حسب تقسيم الأنثروبولوجي الديني الشهير جورج دوميزيل الذي تبحَّر في أديان الشعوب الآرية والهندوروبية، فوجدها تقوم على تحالف طبقة الحكام والطبقة الاقتصادية وطبقة الكهنوت. وهذه السلطة المثلثة تتبدل وجوهُها عند شريعتي عبر التاريخ، ولا تتبدل وظائفُها ومصالحها؛ وهي تظل ماثلة في كل مجتمع عبر صور القوة والمال والدين.

وحيث إن كل دين يرسو في البداية على جادة الحق والصواب، قبل أن تضع هذه السلطة المركَّبة يدها عليه وتحرفه عن مساره، فإنه يتحول، بعامل الخوف والجهل والمُلكية والتمييز الطبقي، إلى دين تبريري تخديري، إلى "دين أفيوني"، حسب عبارة شريعتي المنتشَلة من الجعبة الماركسية. وهذان القطبان المتعارضان المتناقضان في داخل كل دين، أو بين دين وآخر، مستمران في حربهما واحدهما ضد الآخر منذ بداية النوع البشري.

لكن يجب ألا يُفهَم من هذا الكلام أن شريعتي ينتقد أصل التدين كما كانت حال ماركس، عندما قال كلمته المشهورة: "بالنسبة إلى ألمانيا، اكتمل جوهريًّا نقد الدين، ونقد الدين هو الشرط المسبق لكلِّ نقد." إنما ينحو شريعتي إلى تصويب مسار الدين، وتعديل دوره في خدمة الناس، وإلى إيقاف الإسلام على قدميه. القدوة الكربلائية

لأن الإسلام اليوم "إسلام مقلوب"، حسب عبارة شريعتي ذاته، وبهذا الوقوف يتجرد من الأحكام الخاطئة والمسبقات والقبليات والتشوهات التي تركت بصماتها عليه، لا يستعيد الدين الإسلامي، أو التشيع الأصيل – بل كلُّ دين – نقاوته أو أصالته الأولى، إلا باستعادة دوره الاجتماعي والروحي وفعاليته الواقعية ومراميه التغييرية. وهذه الفعالية الاجتماعية هي جوهر كل دين، بصرف النظر عن أبعاده الفكرية أو العقائدية الأخرى. وبدون هذا الأداء الاجتماعي فإن الدين يفقد غايته وعلة وجوده. فكلُّ شيء، في نظر شريعتي، ينزع إلى ذاته وحسب ولا يكون وسيلة لمأرب أو هدف، يفقد فائدته وقيمته، مهما كان مقدسًا. لذا كان إسلام شريعتي على الدوام إسلامًا احتجاجيًّا اعتراضيًّا. ومن هنا عزا داريوش شايغان إلى شريعتي تمثيله النموذجي الإيديولوجي الذي يحوِّل الأفكار إلى قوة تاريخية. وبهذا المعنى ينحو في دراساته إلى الإيغال في الإيديولوجيا الكفاحية التحررية، وينتقد فكرة القضاء والقدر التي خاض فيها المتكلِّمون المسلمون طوال العصور الغابرة، لأن الجبرية لديه تعني الخضوع والاستسلام. في حين أنه يكرِّس نفسه لرفض الواقع والانحياز إلى كلمة "لا"، كما يقول، والثورة على الظلم والفساد.

وفي حياته كان شريعتي مؤازرًا لحركات التحرر الوطنية، وعلى رأسها الثورة الجزائرية، وانضوى في شبابه في حركة مصدِّق، ثم في حركة المقاومة الوطنية التي أنشأها طالقاني وبازركان وزنجاني. وتحت وطأة هذه النظرة الإيديولوجية الكفاحية لدور الدين، نظر شريعتي إلى الإنجازات الفنية والجمالية والهندسية ذات الطابع الديني نظرة نفعية فحسب، واعتبر الجمالية المعمارية في المساجد والتزويق والزخرفة زوائد لا قيمة لها وإضافات تحجب حقيقة العبادة. في حين أن المسجد – "برلمان الشعب" – مركز ومظهر من مظاهر الألفة والانسجام بين الناس وفضاء توحيدي يذيب الحدود والفواصل والطبقات. كذلك يحسب الحسين الشهيد قدوة وكربلاء مدرسة. ولا فائدة في رأيه من الشعائر الحسينية التي يتهم الحكامَ الصفويين بأنهم اقتبسوها من المحافل المسيحية في أوروبا الشرقية التي كانت تحيي فيها ذكرى شهدائها، وبأنهم حولوا الإمام الحسين إلى صورة عن آلام Passion المسيح. ولصبغ هذه الطقوس والشعائر بالصبغة الإيرانية أدخل الملالي عليها بعض التعديلات لتوافق الذوق الشعبي الإيراني وجعلوها موائمة للأعراف والتقاليد الوطنية والمذهبية في إيران. أما لغة هذه الطقوس فهي لغة التصوف وأعمال الدراويش ومبالغات خطباء المنابر وشعراء العامة.

ولم يتوانَ شريعتي، الذي يصب جام غضبه على رجال التشيع الصفوي المتعصبين والمتعنتين والمتحالفين مع السلطة الشاهنشاهية، عن نقد النزعة الشعوبية عند هؤلاء، بطريقة أكثر جذرية من كل من تصدَّى لهذا الموضوع من الأدباء العرب. وقد حلَّل في كتابه التشيع العلوي والتشيُّع الصفوي آلية المزج في الموروث الشيعي الروائي ما بين السلطة الإيرانية الساسانية والنبوة الإسلامية، حيث اختُلِقَتْ الروايات ونُسِجَتْ الأساطير وعلاقات المصاهرة بين أئمة الشيعة وبنات كسرى لتحقيق غرض الوصل بين السلسلة السلطانية الساسانية وبين السلطة الإمامية الشيعية ولبعث العناصر الفارسية في صلب التشيع.

بل من مفارقات شريعتي الإشكالي التوفيقي أيضًا أنه لا يلبث، في بعض الأحيان، أن يتزحزح عن موقعه ومنطلقاته وعن رؤيته التجديدية الإصلاحية، ولكن تحت ضغط حصار المناهضين له الذين يتهمونه بالزندقة والمروق، فيقرُّ بما سبق له أن غالَطَه وناقَضَه، ويشهد أمام الملأ في إحدى ندواته أنه شيعي يتشبث بأصول العقيدة وبعين ما جاء في الموروث المتداول بين الناس. بل إن المفارقة تبلغ مداها وذروتها حينما يفاضل شريعتي، الأستاذ الجامعي الذي درس في أرقى الجامعات الفرنسية، بين الجامعة والحوزة، فيؤثر الطريقة الحوزوية في التعليم على طرائق التدريس الأكاديمية الجامعية!

المصدر، ويكيبيديا أكتوبر 2010