الأربعاء، 27 يناير 2010

الفكر الإسلامي والفرص الضائعة..قراءة في مشروع المسيري


بقلم الدكتور السيد ولد أباه

عكست الخلافات الحادة بين قيادة "الأخوان المسلمين" في مصر التي ظهرت للسطح خلال انتخاب المرشد الجديد للجماعة، الأزمة العميقة التي تعاني منها الحركة الأم للتيارات الإسلامية السُنية.




وفي ما وراء الصراع البارز بين الكتلتين "المحافظة" و"المجددة"، يبدو من الجلي أن الجماعة لم تعد قادرة على استقطاب القاعدة الشبابية التي تتأرجح بين التيارات السلفية العقدية و"الجهادية" والعزوف عن السياسة والاكتفاء من المشروع الإسلامي بجانبه التربوي الدعوي.

وكان أحد قادة الجماعة، قد دعا مؤخراً إلى وقفة مراجعة جريئة لأولويات واستراتيجيات الحركة، معتبراً أنها فشلت في برنامجها السياسي، ولم تطور مشروعها الفكري، ولم تقدم إضافات نوعية في الدراسات الشرعية والفقهية.

لكن ما غاب عن القيادي "الإخواني" هو أن هذه المراجعة يجب أن تطال المشروع الإسلامي في مقوماته الفكرية وأسسه المنهجية ذاتها.

من هذا المنظور، تتعين الملاحظة أن الفكر الإسلامي المعاصر أضاع في السابق فرصاً حقيقية للانطلاق، وهو اليوم في اتجاه إضاعة إمكانات متاحة للتجدد والمراجعة الذاتية.

كانت الفرصة الضائعة الأولى يوم أُحجم في بدايات ومنتصف القرن الماضي عن مشروع "محمد إقبال"الفلسفي، واختار بدلًا منه مشروع كاتب باكستاني آخر هو الداعية السلفي "أبو الأعلى المودودي". تتجلى الفروق بين الرجلين في محاور ثلاثة:

- في حين قام مشروع "تجديد الفكر الديني" لدى إقبال على مفهوم "الحركة"، الذي اعتبره مفتاح نظرة الإسلام للكون ومعيار تأويل النص، اتسمت نظرة المودودي بالنصانية المغلقة بذريعة الاستناد لمرجعية السلف، ورفضاً لكل عدة تأويلية جديدة.

- في حين دعا إقبال إلى الانفتاح على الفلسفات الحديثة، التي كان شديد التشبع بها، معتبراً أنها توفر للفكر الإسلامي إمكانات نظرية خصبة،كرس المودودي مقولة "الغزو الثقافي"، التي تنظر للفكر الإنساني الحديث كمجرد تيارات هدامة أنتجها اليهود والصليبيون لتحطيم الإسلام والقضاء عليه.

- في حين دعا محمد إقبال إلى تجديد الجوانب التشريعية والقانونية في الفقه الإسلامي من منظور مقاصدي منفتح، بلور المودودي مقولة "الحاكمية"، التي أخرجها من مفهومها الكوني الذي ضبطه المفسرون الأوائل (تحكم الله في كونه وخلقه)، لتصبح إطاراً مرجعياً لنظرية سياسية للحكم، أفضت تلقائياً إلى أعتى النزعات التكفيرية المتطرفة الراهنة. وهكذا ضاع مشروع "إقبال"، الذي لم يعد يستثير اهتماماً يذكر في الفكر الإسلامي المعاصر.

وقد أضاع هذا الفكر فرصة ثانية بعزوفه عن الإمكانات النظرية الخصبة التي حملها مشروع المفكر الجزائري "مالك بن نبي"، مستبدلاً إياه بكتابات "سيد قطب"، التي هيمنت على الأيديولوجيا الإسلامية منذ ستينيات القرن الماضي.

لم تكن لبن نبي ثقافة "إقبال" الفلسفية والقانونية ولا جرأته الفكرية، بيد أنه كان واعياً أشد الوعي بحقيقتين بارزتين هما: أن موضوع النهضة يقتضي إحداث تحول تاريخي نوعي في الثقافة والمسلك الاجتماعي لا يمكن للمسلمين تجنبه، ولم ير فيه ما يتعارض مع ثوابت دينهم، وأن لا قيام للدائرة الإسلامية خارج كتلة جنوبية واسعة (محور باندونج) توفر لهم أفقاً استراتيجياً موازيا لمركز النظام الدولي المتمحور حول القطبين المتصارعين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي).

في مقابل هذا التصور العقلاني الاستراتيجي، اختار الإسلاميون منهج "القطيعة" و"العزلة" إزاء مجتمعهم وعالمهم، وتبنوا أطروحة "قطب" في الحاكمية والنزوع الانقلابي للطليعة المؤمنة.

وعلى الرغم من الوعي المتزايد بالآثار الفادحة التي خلفها هذا الموقف فكرياً وسياسياً، فإن الخطاب الإسلامي السائد يبدو في أكثر نسخه "اعتدالا" و"انفتاحاً" محجماً عن فرصة راهنة متاحة للمراجعة الذاتية والانطلاقة المتجددة.

استبدل الإسلاميون خطاب سيد قطب بكتابات المفكر المصري الراحل "عبدالوهاب المسيري" الغزيرة ، التي تعتبر اليوم المرجع الأكثر تجدداً وانتشارا لدى التيارات الإسلامية السياسية.

صحيح أن الرجل واسع الثقافة، لبق العبارة، معتدل المواقف، لم ينتم لتيار تنظيمي بعينه، بيد أن مشروعه النظري يعاني من ثغرتين جليتين هما:

أولاً: قراءته للحداثة من منظور "العلمانية الشاملة"، التي تعني بالنسبة له "الرؤية المادية والعدمية "للطبيعة والإنسان. فهذا التصور الثقافوي المشط لحركية الحداثة يكرس من منطلقات جديدة نفس المقاربة الانفصالية المنغلقة التي طبعت نظرة التيار القطبي للحداثة "الغربية"، فضلاً عن كونها تتضمن أغلاطاً فادحة في قراءة الفكر الغربي الذي يبدو انه ولج إليه من بوابة النقد الأدبي الضيقة (كنظرته السطحية لداروينية نتشه ويهودية دريدا..).

ثانياً:محاكمة الاتجاهات ما بعد الحديثة في الفلسفة والعلوم الإنسانية من منظور مرجعيات الحداثة (الدفاع عن العقل الكوني، وأحادية المعنى وثبات الطبيعة الإنسانية) مع الاستناد إلى هذه الاتجاهات بصفة غير واعية في الدفاع عن فكرة "الحداثة الإسلامية"، التي لا معنى لها إلا في سياق القول العقلانيات والتأويليات المتعددة. وهكذا يصبح البديل الذي يقدمه "المسيري" مزيجاً من حداثة ناقصة ومشوهة وما بعد حداثة خفية وملتبسة.

ومن الواضح أن الإسلاميين يقبلون على كتابات المسيري لما تولد لديهم من وهم القدرة على مقارعة الفكر الغربي من الداخل وبنفس المنطق والبرهان، في حين أنها صياغة نظرية راهنة للمقاربة القطبية نفسها.

وقد فات التيارات الإسلامية الاستفادة من ما تعرفه الفلسفة الإسلامية راهناً من مظاهر إبداع وتجديد، من تجلياتها:

- مشروع "طه عبدالرحمن " الساعي لتجديد الدين من خلال نهضة عقلانية تستخدم الأدوات الكونية في النظر، لاستثمار آفاق المجال التداولي الإسلامي.

- هرمنوطيقا "عبد الكريم سروش" الساعية لتحرير معين الدلالة في النص الإسلامي، من منظور القارئ الراشد المنتج للمعنى.

- مشروع المفكر السنغالي "بشير سليمان ديان" الساعي لاستئناف الإبداع الفلسفي في الإسلام من منظور الأدوات الابستمولوجية الجديدة.

تحمل هذه المشاريع إمكانات نظرية خصبة للخروج من مأزق الأيديولوجيا الإسلامية شرط القراءة المتمعنة والتحرر من آفة التبسيط ومزالق التعبئة.

النص الأصلي للمقال بجريدة الاتحاد الإماراتية.

الخميس، 21 يناير 2010

تجربة محمد عبده.. العمل الأهلي حياة أمة "كتاب للدكتور مجدي سعيد"


-بقلم الدكتور مجدي علي سعيد
غلاف  كتاب العمل الأهلي حياة الامة
غلاف كتاب العمل الأهلي حياة الامة

عرف الناس الإمام محمد عبده مصلحا ومجددا تلميذا للسيد جمال الدين الأفغاني، وإن اختلف عنه في اقترابه من الإصلاح، لكن القليل هم الذين يعرفون عن الإمام تجربته في العمل الأهلي، ومن أجل ذلك جاء كتاب "العمل الأهلي حياة الأمة.. تجربة الإمام محمد عبده"، والذي صدر لكاتب هذه السطور خلال شهر أغسطس من هذا العام 2009 ليعرف القراء، خاصة أولئك المعنيين والمهتمين بالعمل الأهلي في الساحة المصرية والعربية، وقد كان الكتاب في الأصل بحثا قدمته في ديسمبر من عام 2005 في احتفالية مكتبة الإسكندرية بمئوية الإمام محمد عبده.

العمل الأهلي.. سياقات ودوافع

تجربة الإمام محمد عبده كما يقدمها الكتاب هي بنت لسياق زمانها ومكانها، وهي أيضا نتاج لدوافع لا تنفصل عن تلك السياقات، فالأمة المصرية، وهي جزء من الدولة العثمانية، كانت تعاني ضعفا عاما، تجلى في مصرنا في شكل تغلغل للنفوذ الاقتصادي والثقافي الغربي، وقد جاء هذا التغلغل مظهرا من مظاهر التواجد الذي تضاعف من 3 آلاف أجنبي عام 1837 إلى ما يزيد على 260 ألفا عام 1917، وقد تجلى تغلغل النفوذ في فرض نظام الامتيازات الأجنبية على بلدان الدولة العثمانية ومنها مصر، وهو النظام الذي كان يتيح وضعا مميزا للأجانب من الناحية القانونية تجعل منهم كأنهم أصحاب البلد، وأهلها هم الأجانب فيها، أما النفوذ الاقتصادي المتغلغل للأجانب فقد تجلى في زيادة الاستثمارات الأجنبية وسعيها إلى السيطرة على القطاعات الحيوية للاقتصاد المصري ممثلة في الزراعة والصناعة فضلا عن التجارة، وتكدست تلك الأموال في البنوك والمؤسسات المالية الأجنبية التي باتت تغرق المصريين في الديون لتستولي على ما لديهم من عقارات، وتمتص بذلك دماء المصريين.

أما النفوذ الاقتصادي فقد جاء في خلفيات الصورة متمثلا في زيادة أعداد المدارس الأجنبية في مصر حتى وصل الإجمالي إلى 228 مدرسة أجنبية عام 1913، تضم ما يقرب من 5 آلاف تلميذ، بداية من مدرسة واحدة عام 1828، وفي نفس الوقت تزايدت أعداد الجمعيات الأهلية الأجنبية العاملة في مصر لتصل إلى 66 جمعية عام 1913.

وفي المقابل تدهورت الأحوال الاجتماعية/ الاقتصادية لعموم الشعب المصري، وتجلى ذلك في التوزيع غير العادل لملكيات الأراضي الزراعية وحرمان ما يقرب من 2.5 مليون فلاح من أي حيازة زراعية، أما عمال المهن والحرف في مصر فقد باتت أحوال طوائفهم الـ64، والتي كانت تضم 64 ألف عامل عام 1870، في تدهور مستمر منذ دخول الصناعات الحديثة للبلاد، وبعيدا عن الفلاحين والعمال كانت فئات من المجتمع المصري تقع في دائرة التشرد والتسول والبغاء وانعدام الاستقرار في العمل.

وفي هذا الجانب من الصورة أيضا كانت ملامح النهضة التعليمية الوليدة، والتي شهدت موجتين، الأولى في عهد محمد علي باشا، والثانية في عهد الخديوي إسماعيل، كانت تلك النهضة الوليدة توأد في عهد الاحتلال الذي اتبع سياسة تقليص ميزانيات التعليم و"نجلزته" واقتصار الغرض منه على التوظف في خدمة الاحتلال البريطاني.

كل تلك العوامل مجتمعة شكلت وعي الإمام الشيخ محمد عبده، إضافة إلى مكون حب الخير في نفسه، ووعيه بأهمية الدور الأهلي متمثلا في ذلك الوقت في الجمعيات الخيرية والتعليم الأهلي، والذي كان محورا لحياة واهتمام الإمام إصلاحا له وبه، وهو الميدان الذي أجمع عليه كل المصلحين والوطنيين في ذلك الوقت على اختلاف مشاربهم، دفعا في اتجاه نهضة واستقلال البلاد.

جهود الإمام في العمل الأهلي

لم يخل طور من أطوار حياة الإمام محمد عبده من اتخاذ العمل الأهلي من خلال الجمعيات الخيرية سبيلا للانخراط في العمل العام وحمل همومه، فقبل نفي الإمام بعد الاحتلال البريطاني شارك في عام 1878 في تأسيس جمعية المقاصد الخيرية، والتي كانت "من قبيل الجمعيات الخطابية في مصر"، والتي "كان من عملها الانغماس في أمور السياسة، واجتماع أعضائها للخطابة والتداول في أمور كثيرة، وتكوين رأي في كل أمر من هذه الأمور للمجاهرة أو المطالبة به في الوقت المناسب"، وهو لون من ألوان جمعيات التداول في الشأن العام، والذي بتنا نفتقده كثيرا في بيئاتنا العربية، كما شارك الإمام في هذا الطور من حياته في تأسيس "جمعية المساعي الخيرية" عام 1881، وهي من أوائل الجمعيات الخيرية القبطية في مصر، والتي تولى رئاستها بطرس غالي بك، والتي "أنشأت المشغل البطرسي بمدارسه الابتدائية والأولية والتدبير المنزلي والفنون الطرزية، وقامت بتعليم عدد كبير من أبناء الفقراء، ابتدائيا وثانويا وعاليا".

أما في منفاه فبالإضافة إلى جمعية "العروة الوثقى السرية"، وهي جمعية كانت ذات طابع سياسي، فقد ساهم الإمام في بيروت في تأسيس "جمعية التقريب بين الإسلام والمسيحية" عام 1884، والتي "كانت تعمل على إزالة الشقاق بين أهل الأديان والتعاون على محو الاستعمار من الشرق وتعريف الإفرنج بحقيقة الإسلام من أقرب الطرق".

درة أعمال الإمام

تأسست الجمعية الخيرية الإسلامية –وهي من أكبر الجمعيات التي عمل لها ومن خلالها الأستاذ الإمام- في عام 1892 بعد عودته من المنفى، وقد كان الشيخ محمد عبده عضوا بمجلس إدارتها منذ تأسيسها وحتى عام 1900 حينما تولى رئاسة مجلس إدارة الجمعية حتى وفاته عام 1905.

كان الغرض الذي أسست من أجله الجمعية هو "مساعدة فقراء المسلمين المصريين والإعانة على تربيتهم"، وخلال فترة عمل الإمام بمجلس إدارة الجمعية تعاون مع المجلس على زيادة موارد الجمعية التي كانت تنحصر في التبرعات والاشتراكات، وعلى تنشيط هذه الموارد عن طريق الترويج لأهداف الجمعية والحث على الاشتراك في عضويتها، بحيث تزداد هذه الموارد، ومن أجل ذلك وبعد فترة وجيزة من تأسيس الجمعية وبهدف تنظيم جمع التبرعات لصالح أغراض الجمعية تكونت لجنة من أبرز أعضائها ضمت إلى جانب كل من إبراهيم باشا رشدي رئيس الجمعية وأحمد السيوفي باشا أمين الصندوق الإمام الشيخ محمد عبده وعددا آخر من الأعضاء.

وقد تقدم الشيخ محمد عبده وعدد من أعضاء الجمعية بمشروع لفتح فروع للجمعية في المديريات والبنادر والمراكز؛ مما كان له أثره في تزايد شأن الجمعية في فترة وجيزة وزيادة الإقبال على الاشتراك في عضويتها، وزيادة التبرعات لحسابها، وقد اقترن تولي الشيخ محمد عبده في عام 1900 رئاسة الجمعية بالقيام ببعض الإجراءات لتحسين الموارد المالية للجمعية، ومنها تقليل شرط الانتخاب لعضوية مجلس الإدارة من 6 إلى 4 جنيهات، وقبول زكوات الأعضاء عن أموالهم المودعة بدفاتر التوفير، وتأجير المحلات المملوكة للجمعية في مدن مصر، وقد ساهم في ذلك أيضا زيادة حركة وقف الأراضي الزراعية لصالح الجمعية ونشاطها في شراء وبيع الأراضي من فوائض الأموال.

كان من أهم أغراض الجمعية التي عملت على تحقيقها من خلال اللجنة التي أشرف عليها الإمام "تعليم أبناء الفقراء من المسلمين تعليما متميزا يحفظ لهم شخصيتهم الدينية والقومية، وأن يكون بالمجان، وأن يكون التعليم متميزا من حيث المنهج والهدف، حيث يحقق التعليم في مدارس الجمعية هدفين أساسيين؛ هما: اكتساب المهارات الحرفية للعمل في ميدان الصناعات والحرف، والثاني نشر لون من التعليم يحافظ على الثقافة العربية والإسلامية خصوصا، وفي 13 يناير 1893 قام الإمام على رأس وفد بمقابلة مدير عموم الأوقاف للحصول على مكان لإقامة أول مدرسة في القاهرة، وكانت الجمعية قد وضعت أساسا للتوسع في نشر التعليم يقوم على قاعدتين هما: مد يد العون للمدارس التي تقبل العمل بنظام الجمعية، وبشرط أن تكون في حاجة حقيقية إلى مد يد العون من الجمعية، وأن يكون التعليم فيها على الطراز الذي تقرره الجمعية.

وقد لوحظ الإقبال على مدارس الجمعية منذ البداية، فقد أشار تقرير لجنة المدارس في نوفمبر 1894 إلى أن مدارس الجمعية تحتوي على 336 تلميذا من أبناء الفقراء يتعلمون مجانا وتنفق الجمعية على تعليمهم ألف جنيه في السنة بخلاف نفقات الإدارة العمومية، وقد كانت الفترة التي تولى فيها الشيخ محمد عبده رئاسة الجمعية من أزهى فترات التعليم في تاريخ الجمعية، ففي حين أقر المجلس تطوير برامج التعليم وطرق التدريس في مدارس الجمعية فقد توسعت الجمعية أيضا في عهده في قبول التلاميذ وفتح مدارس جديدة في أنحاء مصر، ومن تلك التحسينات: إدخال اللغة الأجنبية إلى برامج التعليم، واشتراط الكفاءة في المدرسين، وقبول بعض التلاميذ بأجر، وقد استمر الازدياد في عدد مدارس الجمعية حتى وصل إلى 9 مدارس عام 1911، جاوز تلامذتها 3 آلاف تلميذ، وقد نشطت الجمعية إضافة إلى ذلك في إعانة الفقراء والمساكين وإغاثة المتضررين من النكبات.

جهود أهلية أخرى للإمام

وقد شملت جهود الإمام بعد المنفى أيضا مشاركته عام 1892 في تأسيس جمعية العروة الوثقى الخيرية بالإسكندرية، وذلك بغرض "القيام بالأعمال الخيرية ونشر العلوم والمعارف والآداب والصنائع وتعليم الفقراء مجانا والإعانة على تربيتهم"، وقد اهتمت الجمعية بشكل خاص بالتعليم الفني إضافة إلى التعليم الإسلامي العام، فقد أنشأت 17 مدرسة حتى عام 1907، إضافة إلى مدرسة محمد علي الصناعية، وزاد عدد طلاب مدارس الجمعية عموما من 150 عام 1894 إلى 3600 عام 1913.

كما شارك الإمام في تأسيس لجنة الهلال الأحمر عام 1898 في أعقاب الحملة العسكرية على السودان، وخلالها سقط العديد من أبناء الجيش المصري بين قتيل وجريح ومشوه، وبدأت كل أسرة تحصي نصيبها من ضحايا تلك الحملة، وأصبح السؤال من يتكفل بهؤلاء ويرعاهم بعد أن اعتذرت الحكومة عن مد يد العون إليهم، ولم يبق لهؤلاء غير تضامن أبناء الأمة، وهو ما دعا إليه آنذاك الشيخ محمد عبده، وسعى لتحقيق ذلك من خلال تأليف لجنة خاصة قوامها رجال القضاء وأهل الثقة من كبار الأغنياء.

وفي العام نفسه (1898) شارك الإمام في تأسيس جمعية إحياء الكتب العربية، حيث كان يرى حياة الأمة بدون حياة لغتها من المحال، وأن حياة العلوم العربية بمثل الكتب الأزهرية محال أيضا، وأنه لابد للإصلاح من إحياء كتب أئمتنا وعلمائنا التي ألفت أيام كان العلم حيا في الأمة، فكان يسعى لذلك سعيه، فقامت الجمعية بإعادة نشر وتحقيق عدد من أمهات كتب التراث العربي والإسلامي، ومنها كتب "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" و"المخصص" و"فتوح البلدان" وغيرها.

آمال تخترق حاجز الموت

لم تتوقف جهود الإمام ولا آماله في مسألة التعليم عند حدود المدارس، بل امتدت إلى تأسيس جامعة أهلية تحقق النهضة التعليمية التي كان ينشدها، لكن عمر الإمام لم يتسع لإتمام المشروعات التي كان يفكر فيها ويهيئ الأذهان لإعداد أسبابها، وضمان إقامتها ودوامها، وقد مرض الأستاذ الإمام مرض الوفاة، فلم يشغله المرض عن إعداد العدة لهذا المشروع الكبير، وزار صديقه أحمد المنشاوي باشا واستزاره غير مرة، للبحث في وسائل بناء الجامعة، وضمان الموارد اللازمة التي ينفق منها عليها، وعلى الرغم من أن الموت كان أسرع من تحقيق ذلك الأمل، فإن المشروع كتب له الحياة والوجود على أيدي تلامذته، فلم تمت الآمال في ذلك بموته.


كاتب وخبير متخصص بالقضايا التنموية بالعالم العربي.

لمتابعة النص الأصلي على إسلام أون لاين.

الثلاثاء، 19 يناير 2010

انتخابات أوكرانيا.. غالبية المسلمين "برتقاليون"

يانوكوفيتش يدلي بصوته في الانتخابات
يانوكوفيتش يدلي بصوته في الانتخابات

كييف- القاهرة –إسلام أون لاين

"برتقاليون!".. هكذا كان خيار غالبية مسلمي أوكرانيا في انتخابات الرئاسة التي جرت جولتها الأولى الأحد 17-1-2010، والتي أشارت نتائجها الأولية إلى فوز الزعيم السياسي المعارض الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش زعيم حزب الأقاليم، تليه رئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو، بعد فرز نحو نصف الأصوات؛ ليتواجها معا في جولة ثانية في السابع من فبراير المقبل.

وكانت أكبر مؤسستين إسلاميتين في أوكرانيا، وهما: اتحاد المنظمات الاجتماعية "الرائد"، والإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا "أُمَّة"، قد أصدرتا بيانا مشتركا دعتا من خلاله مسلمي البلاد إلى "المشاركة الإيجابية الفاعلة في تلك الانتخابات الرئاسية، ومنح أصواتهم لمن يرون أنه أقدر على النهوض بالمجتمع والعمل لصالحه"، من دون تأييد أحد من المرشحين.

واعتبر البيان أن مستقبل البلاد "يعتمد على أصوات مواطنيها جميعا".

طالع أيضا:

وقال إيجور كربيشين رئيس الإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا "أمة": إن الإدارة واتحاد المنظمات الاجتماعية "الرائد" دعيا مسلمي البلاد إلى المشاركة الفاعلة، دون تحديد مرشح دون آخر.

وأوضح في تصريحات لـ"إسلام أون لاين.نت" أن ذلك يعود إلى تباين اهتمامات ومطالب المسلمين بحسب المناطق التي يسكنون فيها، وقال: "لتتار القرم (جنوب) اهتمامات، ولمسلمي الدونباس (شرق) اهتمامات، ولمسلمي باقي الأقاليم والمناطق اهتمامات، ولذلك اكتفينا بدعوة المسلمين إلى التصويت لصالح من يرون أنه أهل لخدمة جميع فئات المجتمع الأوكراني على اختلافاتها العرقية والدينية".

وبحسب تقارير إعلامية، فإن مرشحي الانتخابات، وعددهم 18، عملوا على محاولة كسب الصوت الإسلامي من خلال مجموعة من البنود التي تضمنتها برامجهم بشأن تحسين أوضاع الأقليات في هذا البلد.

إلا أن أغلبية مسلمي أوكرانيا فضلوا التصويت لصالح مرشحي ما يعرف إعلاميا بـ"الثورة البرتقالية"، وعلى رأسهم رئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو، بحسب استطلاع أجرته شبكة "إسلام أون لاين.نت" لآراء عدد من رموز الأقلية المسلمة من مواطنين ووافدين، في مناطق مختلفة من أوكرانيا.

وتتولى تيموشينكو رئاسة الوزارة في حكومة الرئيس المنتهية ولايته فيكتور يوتشينكو، الذي قاد إبان توليه لرئاسة الوزراء في حكومة الرئيس السابق يانوكوفيتش، حركة شعبية مؤيدة للنمط الليبرالي الغربي، أسقطت حكم يانوكوفيتش في أواخر العام 2004، وعرفت باسم "الثورة البرتقالية"، ووقتها صوت معظم مسلمي أوكرانيا لصالح يوتشينكو في انتخابات 2004 الرئاسية.

مشاركة فعالة

من جهته، أكد الدكتور إسماعيل قاضي، رئيس "الرائد"، كبرى المؤسسات المعنية بشئون العرب والمسلمين بأوكرانيا، أنه "كانت هناك مشاركة كبيرة وفعالة من قبل مسلمي أوكرانيا في انتخابات أمس الأحد 17 يناير".

وردا على سؤال لـ"إسلام أون لاين.نت" حول لمن أعطى مسلمو أوكرانيا أصواتهم، قال قاضي: "يصعب تحديد ذلك؛ نظرا لعدم وجود مظلة سياسية واحدة تجمع جميع مسلمي أوكرانيا".

إلا أنه توقع أن تكون غالبية أصوات مسلمي أوكرانيا قد ذهبت لمرشحين من أنصار التيار الديمقراطي والموالي للغرب "البرتقالي"، وأوضح أن ذلك يعود إلى أنه "كانت هناك تصريحات ونداءات من قبل مؤسسات إسلامية للتصويت لصالحهم بهدف دعم التوجه الأوروبي لأوكرانيا، وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر رمز المساواة والرخاء في عصرنا الحالي"، بحسب قوله.

كما قال إنه بالإضافة إلى الاعتبارات الخاصة بمسلمي أوكرانيا في هذا الإطار، فإن فهناك الكثير من منظمات المجتمع المدني التي تأسست في ظل أجواء الانفتاح التي سادت خلال تولي التيار الليبرالي الموالي للغرب للسلطة في السنوات الماضية "أصبحت منتشرة في المجتمع، ولها دور كبير في توجيه المواطنين لدعم مرشحي التوجه الغربي في هذه الانتخابات".

تتار القرم

وفي الإطار، قالت ليليا مسليموفا المتحدثة باسم مجلس شعب تتار القرم، أكبر مؤسسة تترية ذات طابع سياسي في أوكرانيا، لـ"إسلام أون لاين.نت": إن أكثر من 70% من التتار صوتوا في الانتخابات، بينما النسبة الباقية من تتار القرم حال بينها وبين التصويت سوء أحوال الطقس، وبعد المسافات؛ نظرا لسكناهم في قرى نائية، بحسب قولها.

وأوضحت مسليموفا أن تتار القرم، البالغين نحو 500 ألف مسلم، قد صوتوا لصالح "من يبرز اهتماما بقضاياهم؛ وهم الموالون للغرب وليس لموسكو"، مشيرة إلى أن رئيسة الوزراء تيموشينكو المرشحة القوية الوحيدة ذات الميول الغربية في الانتخابات الرئاسية "صوت لها معظم التتار".

ومن جهته، قال سيران عاريفوف مدير مركز الرضوان الإسلامي في القرم لـ"إسلام أون لاين.نت" في معرض تفسيره لأسباب تصويت مسلمي أوكرانيا لصالح تيموشينكو: إن "هاجس نيل الحقوق واستعادة الأراضي والممتلكات لعب دورا أساسيا في نفس الناخب التتري في أوكرانيا، لذلك فإن أصوات التتار توجهت نحو تيموشينكو التي وعدتهم بحلول" لهذه المشكلات.

نفس الأمر أكده الدكتور محمد طه، مدير مكتب "الرائد" بالقرم، ورئيس المركز الإسلامي بها، خلال حواره عبر الهاتف مع "إسلام أون لاين.نت".

وعلل طه ذلك بأن "المجلس التتري بالقرم كان قد أرسل إلى أبرز 9 مرشحين مذكرة تتضمن نحو 30 سؤالا حول رؤيتهم لكيفية معالجة القضايا المتعلقة بتتار القرم، وتحسين أوضاعهم المعيشية، وإعادة توطينهم في أرضهم التي صودرت منهم إبان حقبة الشيوعية"، وقال: إن المرشح الوحيد الذي رد على تلك المذكرة كان رئيسة الوزراء الحالية تيموشينكو؛ "وهو ما دفع بتتار القرم إلى تأييدها بقوة"، بحسب طه.

ولفت الدكتور طه إلى أن المجلس كان قد دعا المسلمين إلى تأييد أي مرشح يرونه مناسبا من مرشحي التيار الديمقراطي الموالي للغرب في الجولة الأولى، وقال إنهم سوف يدعون إلى ذلك في الجولة الثانية من الانتخابات.

تتار الدونباس

على جانب آخر، لم يكن ذلك هو موقف كل مسلمي أوكرانيا؛ ففي شرق البلاد حيث يتركز تتار الدونباس، أكد الشيخ سعيد إسماعيلوف، مفتي الإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا "أمة" أن "تتار كازان في إقليم الدونباس (ثاني أكبر تجمع للتتار في أوكرانيا بعد القرم) لم يصوتوا لصالح رئيسة الوزراء تيموشينكو"، وعلل ذلك بأنهم "يرون أن سياسات حكومتها تسببت في إغلاق معظم مصانع الإقليم وقطع الرواتب".

كما لفت الشيخ إسماعيلوف إلى أنهم -تتار الدونباس- لم يصوتوا فقط لصالح زعيم المعارضة وحزب الأقاليم يانوكوفيتش، بل صوتوا لمرشحين آخرين تميزوا بطرح قوي لبرامجهم أثناء الحملات الانتخابية، وفي مقدمتهم وزير الاقتصاد السابق ورجل الأعمال سيرجي تيجيبكو، ووزير الدفاع السابق أناتولي جريتشينكو.

العاصمة كييف

أما في العاصمة كييف، فقد كانت الصورة مختلفة؛ حيث تباينت مواقف المسلمين إزاء المرشحين، من واقع العينة التي استطلع "إسلام أون لاين.نت" رأيها.

فقالت سوزان إسلاموفا (32 عاما) إنها صوتت "ضد الكل"، مؤكدة أنه "لا أحد من المرشحين يستحق أن يكون رئيسا، وخاصة أن الشعب سئمهم جميعا، وسئم كذب وعودهم واستغلالهم المناصب لمصالح شخصية ليس إلا".

أما نيكيتا دراتشوك، وهو شاب أوكراني مسلم يدرس الصحافة، فقال إنه صوت لصالح المرشح المستقل ورجل الأعمال سيرجي تيجيبكو؛ لأنه -بحسب قوله- ذو صفحة بيضاء، وذو خبرة في مجال الاقتصاد، وهو -دراتشوك- يؤمن "بأن التغيير سبيل وحيد إلى حل مشاكل المجتمع الأوكراني".

وشهدت أوكرانيا أمس الأحد انتخابات رئاسية، أظهرت مؤشرات الفرز الخاصة بأكثر من نصف الأصوات حتى ظهر أمس فوز فيكتور يانوكوفيتش بحصوله على 36,86% من الأصوات، ليتواجه مع رئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو في الدورة الثانية المقررة في السابع من فبراير المقبل، بحسب إحصائيات ذكرتها وكالة الأنباء الفرنسية.

أما الرئيس المنتهية ولايته فيكتور يوتشينكو، بطل الثورة البرتقالية، فقد حل خامسا بحصوله على 4.87% فقط من الأصوات، خلف الرئيس السابق للبرلمان أرسني ياتسينبوك الذي حصل على 6.44% من الأصوات.

ودعي 36 مليون أوكراني للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، من أصل 48 مليون مواطن، وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 66,68%، بحسب اللجنة الانتخابية المركزية.

ويتجاوز عدد المسلمين في أوكرانيا مليوني نسمة، يمثلون ما نسبته حوالي 5% من عدد سكان أوكرانيا، بحسب إحصائيات رسمية حديثة، ويتركزون في شبه جزيرة القرم على ساحل البحر الأسود.

وينتمي مسلمو أوكرانيا إلى عرقيات وأجناس مختلفة، أكبرها تتار القرم وهم من أصول تركية، وتتار قازان وهم من مناطق القوقاز واستوطنوا أوكرانيا من مئات السنين، كما أن هناك أعدادًا من الآذريين والشيشان والأوزبك، إضافة إلى أبناء الوافدين من بلاد عربية وإسلامية.


Read more: http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1262372448329&pagename=Zone-Arabic-News/NWALayout#ixzz0d3DquHzv

الأربعاء، 13 يناير 2010

لماذا لا يوقف الإخوان الإصلاحيون انتخابات مكتب الإرشاد

http://www.facebook.com//profile.php?v=feed&story_fbid=203951393740&
id=608899456

عبد المنعم أبو الفتوح

من بين ما كشفته الأزمة الأخيرة في جماعة الإخوان المسلمين هو حقيقة وزن ودور الإصلاحيين داخل الجماعة، ومدي قدرتهم علي الدفاع عن أفكارهم ومواقفهم في مواجهة المحافظين أو الصقور. فقد فوجئ الكثيرون برد فعل القطب الإصلاحي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح سواء أثناء الأزمة أو بعدها. وذلك نظراً لما هو معروف عن الرجل من جرأته وشجاعته في مواجهة أخطاء الجماعة وتشدّد بعض قيادييها.

وابتداء فإنه يظل من قبيل المبالغة أن يتم تقسيم الجماعة إلي تيارين أحدهما إصلاحي والآخر محافظ. ويظل ما يردده بعض المراقبين والمتابعين للشأن الإخواني بشأن تقسيم الجماعة إلي هذين التيارين ما هو إلا مجرد فرضية «وربما أمنية» أكثر منها حقيقة واقعة. فالأرجح أننا نتحدث عن تيار واحد عريض ذي درجات متفاوتة من المرونة والجمود، لكنه إجمالاً يقع ضمن فئة التيار المحافظ بجناحيه المتشدد «الدعوي» والمعتدل أو البراجماتي «السياسي». والحجج في هذا الصدد كثيرة، أولاها أن كلمة تيار في حد ذاتها إنما تنطوي علي وجود حركة إصلاحية عمودية متغلغلة في جميع أجيال وشرائح الجماعة ولديها القدرة علي اتخاذ مواقف واضحة، وذلك علي غرار ما هي الحال مع الكتلة المحافظة التي هي بالفعل متغلغلة داخل التنظيم ولديها شرائح وأجيال مختلفة داخل هيكل الجماعة. وهو ما يصعب القول به في حالة الإصلاحيين الذين لا يتعدون أصابع اليد الواحدة وجميعهم معروفون للعامة والخاصة.

ثانياً، إن وجود تيار إصلاحي يعني أن هناك رؤية إصلاحية واضحة المعالم، تتم ترجمتها في إطار أجندة فكرية أو برنامج سياسي ذي أبعاد محددة بحيث تمثل اختلافا حقيقياً وافتراقاً عن أفكار التيار المحافظ. وهو أمر يصعب القول بوجوده داخل جماعة الإخوان المسلمين. فأقصي ما يمكن الحصول عليه من أدبيات الرموز الإصلاحية داخل الحركة، هو مجرد أفكار إصلاحية متناثرة هنا وهناك دون انسجامها في خط فكري متماسك. ويظل الدكتور أبو الفتوح أكثر الشخصيات الإخوانية إنتاجاً للأفكار الإصلاحية، وهي أفكار علي حيويتها وأهميتها، إلا أنها لا تخرج عن إطارها الذاتي كما أنها تعكس شخصية الدكتور أبو الفتوح ذاته دون أن تمثل تياراً عاماً داخل الجماعة.

وإذا كان الدكتور أبو الفتوح يتبني رؤية سياسية متقدمة بشأن قضايا كثيرة مثل الديمقراطية والحريات العامة والدولة المدنية... إلخ، فإنه لم يمتلك القدرة علي تحويلها إلي برنامج تغيير تنظيمي داخل الجماعة. لذا فإنه كثيراً ما دفع ثمن مواقفه وأفكاره التي جلبت له الكثير من المشاكل توجت بإقصائه من مكتب الإرشاد.

وهي نفس الحال مع كل من الرمزين الإصلاحيين جمال حشمت وإبراهيم الزعفراني، فهما وإن كانا يحملان نفس النزعة الإصلاحية الموجودة لدي أبو الفتوح، فإنهما لا يتمتعان بالقدرة التنظيمية التي قد تمكنهما من بلورة تيار أو جناح موازٍ للمحافظين داخل الجماعة.

ثالثاً، بالرغم من جاذبية الأفكار والرؤي التي تطرحها الرموز الإصلاحية داخل الإخوان، فإنها لم تترجم عملياً في شكل بناء تكتل تنظيمي داخل الجماعة. بمعني أنها لم تنتشر بسهولة وسرعة داخل الجسد الإخواني، وذلك لسببين، أولهما هيمنة المحافظين، خاصة القيادات الوسيطة، علي مفاصل التنظيم وبالتالي سد المنافذ أمام تمرير أي أفكار إصلاحية أو علي الأقل مخالفة لأفكار المحافظين للمستويات القاعدية. وثانيهما، بسبب عدم قدرة الرموز الإصلاحية، وربما عدم رغبتها، في الدفاع عن أفكارها والمطالبة بضرورة طرحها علي الصف الإخواني. ناهيك عن نجاح المحافظين في تشويه صورة الإصلاحيين داخل الجماعة بسبب مواقفهم وهي إحدي العادات الإخوانية للتخلص من أي شخص لا ينسجم مع أفكار القيادات المحافظة.

رابعاً، إن الرموز الإصلاحية داخل الإخوان كثيراً ما تميل إلي تغليب مصلحة التنظيم علي حساب تطوير الجانب الفكري والسياسي للجماعة. وكثيراً ما تتذرع هذه الرموز بمسألة الصراع مع النظام كمبرر لعدم قدرتها علي طرح رؤيتها الإصلاحية بشكل قوي وفعّال علي المحافظين. وهي حجة قد تكون مقبولة مرحلياً، ولكن أن تظل بمثابة خيار استراتيجي لهذه الرموز فهو أمر غير مفهوم. فعلي سبيل المثال عندما تم طرح البرنامج الحزبي للجماعة في أغسطس عام 2007، لم تتخذ الرموز الإصلاحية موقفاً واضحاً من الثغرات التي وقع فيها البرنامج. صحيح أن أبو الفتوح وحشمت والزعفراني أبدوا اختلافهم مع بعض الأفكار الشاذة التي جاءت بالبرنامج خاصة مسألة هيئة العلماء والمرأة والأقباط، إلا أن ذلك لم يتم بشكل واضح وقوي داخل التنظيم وإنما جاء في شكل تصريحات صحفية هنا وهناك.

خامساً، والأهم، أن هذه الرموز الإصلاحية لا تتحرك بشكل جماعي، وإنما بشكل فردي وعلي استحياء. وهو ما وضح بقوة خلال الأزمة الأخيرة، فبالرغم من اتفاق الثلاثي الإصلاحي أبو الفتوح والزعفراني وحشمت علي أن ثمة شوائب ظهرت خلال انتخابات مكتب الإرشاد التي أجريت مؤخراً وذلك إلي درجة قد تشكك في نزاهتها وشرعيتها، إلا أنهم لم يتخذوا أي خطوة جماعية سواء لوقف هذه المهزلة الانتخابية أو للطعن في نتائجها. وتظل مواقفهم تعبر عن مناشدات علي استحياء لتدارك ما حدث، وذلك تحت ذريعة الحفاظ علي وحدة الجماعة وتماسك الصف. وهم يغفلون أن الصمت علي مثل هذه التجاوزات قد أضر، ولا يزال، بصورة الحركة وأكل من مصداقيتها بشكل غير مسبوق.

سادساً، بالرغم من أن أفكار الرموز الإصلاحية تلقي قبولاً لدي الجيل الشاب من الإخوان، فإن التواصل التنظيمي بين الطرفين يظل ضعيفاً للغاية. وكثيراً ما تعجبت من عدم قدرة هذه الرموز علي الاستفادة من المخزون الحركي لدي الشباب وتوظيفه لمصلحة التغيير والإصلاح داخل الجماعة.

لذا قد أصيب الشباب الإصلاحي داخل الجماعة بصدمة قوية بعد إجراء انتخابات مكتب الإرشاد ليس بسبب هيمنة المحافظين، فهذا كان متوقعاً، وإنما بسبب رد الفعل السلبي للرموز الإصلاحية خاصة الدكتور أبو الفتوح علي ما جري. ويشعر كثير من هؤلاء بحالة من «اليُتم» بعد خروج أبو الفتوح من مكتب الإرشاد وهو الذي كان يمثل لهم آخر بارقة أمل في إصلاح أحوال الجماعة العجوز.

وللحق، فإن آخر حركة إصلاحية حقيقية داخل جماعة الإخوان قامت داخل جماعة الإخوان تتمثل في مجموعة «حزب الوسط» التي كانت لديها رؤية إصلاحية واضحة، وطرحت أجندة فكرية وسياسية مغايرة تماماً للخط العام لجماعة الإخوان، ودفعت ثمن خروجها عن هيمنة المحافظين والانعتاق من أسر العمل التنظيمي من أجل الاندماج الكامل في الحياة السياسية، وذلك بغض النظر عما حدث معها لاحقاً من قبل النظام.

لكل ما سبق أستغرب كثيراً من اندهاش البعض من هيمنة المحافظين والتنظيميين علي انتخابات مكتب الإرشاد الأخيرة، وكأن الإصلاحيين كانوا يقودون الجماعة منفردين طيلة الفترة الماضية أو كأنهم كانوا الأغلبية داخل مكتب الإرشاد الذي لم يشهد أي انتخابات حقيقية خلال العقود الثلاثة الماضية إلا مرة واحدة عام 1995.

وباعتقادي أن الانتخابات الأخيرة لمكتب الإرشاد، وبقدر ما فيها من شوائب وأخطاء، إلا أنها لا تخلو من دلالات وفوائد كثيرة، أولاها أنها كشفت عن الحجم الحقيقي لما يُقال عن أنه تيار إصلاحي داخل الجماعة. وأثبتت يقيناً أن الجماعة علي كبر حجمها واتساع عضويتها فإنها لا تزال تعيش تحت وطأة التيار المحافظ وتفتقد وجود «رئة» إصلاحية حقيقية يمكن للكثيرين التنفس من خلالها.

ثانيها، أنه كان من الأفضل للإصلاحيين أن يظلوا صامتين خلال الأزمة الأخيرة بدلاً من أن يبرروا ما حدث وأن يدافعوا عن خيارات مجلس الشوري العام باعتبارها دليلاً علي الديمقراطية الداخلية. صحيح أن الولاء والالتزام التنظيمي يفرض عليهم عدم التعريض بالجماعة أو انتقاد المسئولين عن الأزمة الأخيرة، بيد أن الصمت علي أوضاع شاذة داخل الجماعة قد يفاقمها ويزيد من مشاكلها في المستقبل.

ثالثها، أن الخطر الحقيقي علي الجماعة خلال المرحلة المقبلة لن يأتي من النظام وإنما من داخل الجماعة ذاتها. فإذا صحت المقولات التي يروجها البعض بأن هناك نزوحاً قاعدياً باتجاه الأفكار السلفية، فقد تقع الجماعة في مأزق إعادة تبرير اعتدالها وسلميتها.

رابعها، والأهم، هو أن ثمة سؤالاً يطرح نفسه بقوة علي الجميع هو: لماذا لا تتوقف ماكينة التنظيم الإخواني عن ضخ وإنتاج أفكار وقيادات محافظة دون القدرة علي تقديم شخصيات إصلاحية حقيقية؟ وهو سؤال ربما يكون في حاجة إلي مقال آخر.

خبير في شئون الإسلام السياسي، جامعة دور هام، بريطانيا.