الخميس، 21 يناير 2010

تجربة محمد عبده.. العمل الأهلي حياة أمة "كتاب للدكتور مجدي سعيد"


-بقلم الدكتور مجدي علي سعيد
غلاف  كتاب العمل الأهلي حياة الامة
غلاف كتاب العمل الأهلي حياة الامة

عرف الناس الإمام محمد عبده مصلحا ومجددا تلميذا للسيد جمال الدين الأفغاني، وإن اختلف عنه في اقترابه من الإصلاح، لكن القليل هم الذين يعرفون عن الإمام تجربته في العمل الأهلي، ومن أجل ذلك جاء كتاب "العمل الأهلي حياة الأمة.. تجربة الإمام محمد عبده"، والذي صدر لكاتب هذه السطور خلال شهر أغسطس من هذا العام 2009 ليعرف القراء، خاصة أولئك المعنيين والمهتمين بالعمل الأهلي في الساحة المصرية والعربية، وقد كان الكتاب في الأصل بحثا قدمته في ديسمبر من عام 2005 في احتفالية مكتبة الإسكندرية بمئوية الإمام محمد عبده.

العمل الأهلي.. سياقات ودوافع

تجربة الإمام محمد عبده كما يقدمها الكتاب هي بنت لسياق زمانها ومكانها، وهي أيضا نتاج لدوافع لا تنفصل عن تلك السياقات، فالأمة المصرية، وهي جزء من الدولة العثمانية، كانت تعاني ضعفا عاما، تجلى في مصرنا في شكل تغلغل للنفوذ الاقتصادي والثقافي الغربي، وقد جاء هذا التغلغل مظهرا من مظاهر التواجد الذي تضاعف من 3 آلاف أجنبي عام 1837 إلى ما يزيد على 260 ألفا عام 1917، وقد تجلى تغلغل النفوذ في فرض نظام الامتيازات الأجنبية على بلدان الدولة العثمانية ومنها مصر، وهو النظام الذي كان يتيح وضعا مميزا للأجانب من الناحية القانونية تجعل منهم كأنهم أصحاب البلد، وأهلها هم الأجانب فيها، أما النفوذ الاقتصادي المتغلغل للأجانب فقد تجلى في زيادة الاستثمارات الأجنبية وسعيها إلى السيطرة على القطاعات الحيوية للاقتصاد المصري ممثلة في الزراعة والصناعة فضلا عن التجارة، وتكدست تلك الأموال في البنوك والمؤسسات المالية الأجنبية التي باتت تغرق المصريين في الديون لتستولي على ما لديهم من عقارات، وتمتص بذلك دماء المصريين.

أما النفوذ الاقتصادي فقد جاء في خلفيات الصورة متمثلا في زيادة أعداد المدارس الأجنبية في مصر حتى وصل الإجمالي إلى 228 مدرسة أجنبية عام 1913، تضم ما يقرب من 5 آلاف تلميذ، بداية من مدرسة واحدة عام 1828، وفي نفس الوقت تزايدت أعداد الجمعيات الأهلية الأجنبية العاملة في مصر لتصل إلى 66 جمعية عام 1913.

وفي المقابل تدهورت الأحوال الاجتماعية/ الاقتصادية لعموم الشعب المصري، وتجلى ذلك في التوزيع غير العادل لملكيات الأراضي الزراعية وحرمان ما يقرب من 2.5 مليون فلاح من أي حيازة زراعية، أما عمال المهن والحرف في مصر فقد باتت أحوال طوائفهم الـ64، والتي كانت تضم 64 ألف عامل عام 1870، في تدهور مستمر منذ دخول الصناعات الحديثة للبلاد، وبعيدا عن الفلاحين والعمال كانت فئات من المجتمع المصري تقع في دائرة التشرد والتسول والبغاء وانعدام الاستقرار في العمل.

وفي هذا الجانب من الصورة أيضا كانت ملامح النهضة التعليمية الوليدة، والتي شهدت موجتين، الأولى في عهد محمد علي باشا، والثانية في عهد الخديوي إسماعيل، كانت تلك النهضة الوليدة توأد في عهد الاحتلال الذي اتبع سياسة تقليص ميزانيات التعليم و"نجلزته" واقتصار الغرض منه على التوظف في خدمة الاحتلال البريطاني.

كل تلك العوامل مجتمعة شكلت وعي الإمام الشيخ محمد عبده، إضافة إلى مكون حب الخير في نفسه، ووعيه بأهمية الدور الأهلي متمثلا في ذلك الوقت في الجمعيات الخيرية والتعليم الأهلي، والذي كان محورا لحياة واهتمام الإمام إصلاحا له وبه، وهو الميدان الذي أجمع عليه كل المصلحين والوطنيين في ذلك الوقت على اختلاف مشاربهم، دفعا في اتجاه نهضة واستقلال البلاد.

جهود الإمام في العمل الأهلي

لم يخل طور من أطوار حياة الإمام محمد عبده من اتخاذ العمل الأهلي من خلال الجمعيات الخيرية سبيلا للانخراط في العمل العام وحمل همومه، فقبل نفي الإمام بعد الاحتلال البريطاني شارك في عام 1878 في تأسيس جمعية المقاصد الخيرية، والتي كانت "من قبيل الجمعيات الخطابية في مصر"، والتي "كان من عملها الانغماس في أمور السياسة، واجتماع أعضائها للخطابة والتداول في أمور كثيرة، وتكوين رأي في كل أمر من هذه الأمور للمجاهرة أو المطالبة به في الوقت المناسب"، وهو لون من ألوان جمعيات التداول في الشأن العام، والذي بتنا نفتقده كثيرا في بيئاتنا العربية، كما شارك الإمام في هذا الطور من حياته في تأسيس "جمعية المساعي الخيرية" عام 1881، وهي من أوائل الجمعيات الخيرية القبطية في مصر، والتي تولى رئاستها بطرس غالي بك، والتي "أنشأت المشغل البطرسي بمدارسه الابتدائية والأولية والتدبير المنزلي والفنون الطرزية، وقامت بتعليم عدد كبير من أبناء الفقراء، ابتدائيا وثانويا وعاليا".

أما في منفاه فبالإضافة إلى جمعية "العروة الوثقى السرية"، وهي جمعية كانت ذات طابع سياسي، فقد ساهم الإمام في بيروت في تأسيس "جمعية التقريب بين الإسلام والمسيحية" عام 1884، والتي "كانت تعمل على إزالة الشقاق بين أهل الأديان والتعاون على محو الاستعمار من الشرق وتعريف الإفرنج بحقيقة الإسلام من أقرب الطرق".

درة أعمال الإمام

تأسست الجمعية الخيرية الإسلامية –وهي من أكبر الجمعيات التي عمل لها ومن خلالها الأستاذ الإمام- في عام 1892 بعد عودته من المنفى، وقد كان الشيخ محمد عبده عضوا بمجلس إدارتها منذ تأسيسها وحتى عام 1900 حينما تولى رئاسة مجلس إدارة الجمعية حتى وفاته عام 1905.

كان الغرض الذي أسست من أجله الجمعية هو "مساعدة فقراء المسلمين المصريين والإعانة على تربيتهم"، وخلال فترة عمل الإمام بمجلس إدارة الجمعية تعاون مع المجلس على زيادة موارد الجمعية التي كانت تنحصر في التبرعات والاشتراكات، وعلى تنشيط هذه الموارد عن طريق الترويج لأهداف الجمعية والحث على الاشتراك في عضويتها، بحيث تزداد هذه الموارد، ومن أجل ذلك وبعد فترة وجيزة من تأسيس الجمعية وبهدف تنظيم جمع التبرعات لصالح أغراض الجمعية تكونت لجنة من أبرز أعضائها ضمت إلى جانب كل من إبراهيم باشا رشدي رئيس الجمعية وأحمد السيوفي باشا أمين الصندوق الإمام الشيخ محمد عبده وعددا آخر من الأعضاء.

وقد تقدم الشيخ محمد عبده وعدد من أعضاء الجمعية بمشروع لفتح فروع للجمعية في المديريات والبنادر والمراكز؛ مما كان له أثره في تزايد شأن الجمعية في فترة وجيزة وزيادة الإقبال على الاشتراك في عضويتها، وزيادة التبرعات لحسابها، وقد اقترن تولي الشيخ محمد عبده في عام 1900 رئاسة الجمعية بالقيام ببعض الإجراءات لتحسين الموارد المالية للجمعية، ومنها تقليل شرط الانتخاب لعضوية مجلس الإدارة من 6 إلى 4 جنيهات، وقبول زكوات الأعضاء عن أموالهم المودعة بدفاتر التوفير، وتأجير المحلات المملوكة للجمعية في مدن مصر، وقد ساهم في ذلك أيضا زيادة حركة وقف الأراضي الزراعية لصالح الجمعية ونشاطها في شراء وبيع الأراضي من فوائض الأموال.

كان من أهم أغراض الجمعية التي عملت على تحقيقها من خلال اللجنة التي أشرف عليها الإمام "تعليم أبناء الفقراء من المسلمين تعليما متميزا يحفظ لهم شخصيتهم الدينية والقومية، وأن يكون بالمجان، وأن يكون التعليم متميزا من حيث المنهج والهدف، حيث يحقق التعليم في مدارس الجمعية هدفين أساسيين؛ هما: اكتساب المهارات الحرفية للعمل في ميدان الصناعات والحرف، والثاني نشر لون من التعليم يحافظ على الثقافة العربية والإسلامية خصوصا، وفي 13 يناير 1893 قام الإمام على رأس وفد بمقابلة مدير عموم الأوقاف للحصول على مكان لإقامة أول مدرسة في القاهرة، وكانت الجمعية قد وضعت أساسا للتوسع في نشر التعليم يقوم على قاعدتين هما: مد يد العون للمدارس التي تقبل العمل بنظام الجمعية، وبشرط أن تكون في حاجة حقيقية إلى مد يد العون من الجمعية، وأن يكون التعليم فيها على الطراز الذي تقرره الجمعية.

وقد لوحظ الإقبال على مدارس الجمعية منذ البداية، فقد أشار تقرير لجنة المدارس في نوفمبر 1894 إلى أن مدارس الجمعية تحتوي على 336 تلميذا من أبناء الفقراء يتعلمون مجانا وتنفق الجمعية على تعليمهم ألف جنيه في السنة بخلاف نفقات الإدارة العمومية، وقد كانت الفترة التي تولى فيها الشيخ محمد عبده رئاسة الجمعية من أزهى فترات التعليم في تاريخ الجمعية، ففي حين أقر المجلس تطوير برامج التعليم وطرق التدريس في مدارس الجمعية فقد توسعت الجمعية أيضا في عهده في قبول التلاميذ وفتح مدارس جديدة في أنحاء مصر، ومن تلك التحسينات: إدخال اللغة الأجنبية إلى برامج التعليم، واشتراط الكفاءة في المدرسين، وقبول بعض التلاميذ بأجر، وقد استمر الازدياد في عدد مدارس الجمعية حتى وصل إلى 9 مدارس عام 1911، جاوز تلامذتها 3 آلاف تلميذ، وقد نشطت الجمعية إضافة إلى ذلك في إعانة الفقراء والمساكين وإغاثة المتضررين من النكبات.

جهود أهلية أخرى للإمام

وقد شملت جهود الإمام بعد المنفى أيضا مشاركته عام 1892 في تأسيس جمعية العروة الوثقى الخيرية بالإسكندرية، وذلك بغرض "القيام بالأعمال الخيرية ونشر العلوم والمعارف والآداب والصنائع وتعليم الفقراء مجانا والإعانة على تربيتهم"، وقد اهتمت الجمعية بشكل خاص بالتعليم الفني إضافة إلى التعليم الإسلامي العام، فقد أنشأت 17 مدرسة حتى عام 1907، إضافة إلى مدرسة محمد علي الصناعية، وزاد عدد طلاب مدارس الجمعية عموما من 150 عام 1894 إلى 3600 عام 1913.

كما شارك الإمام في تأسيس لجنة الهلال الأحمر عام 1898 في أعقاب الحملة العسكرية على السودان، وخلالها سقط العديد من أبناء الجيش المصري بين قتيل وجريح ومشوه، وبدأت كل أسرة تحصي نصيبها من ضحايا تلك الحملة، وأصبح السؤال من يتكفل بهؤلاء ويرعاهم بعد أن اعتذرت الحكومة عن مد يد العون إليهم، ولم يبق لهؤلاء غير تضامن أبناء الأمة، وهو ما دعا إليه آنذاك الشيخ محمد عبده، وسعى لتحقيق ذلك من خلال تأليف لجنة خاصة قوامها رجال القضاء وأهل الثقة من كبار الأغنياء.

وفي العام نفسه (1898) شارك الإمام في تأسيس جمعية إحياء الكتب العربية، حيث كان يرى حياة الأمة بدون حياة لغتها من المحال، وأن حياة العلوم العربية بمثل الكتب الأزهرية محال أيضا، وأنه لابد للإصلاح من إحياء كتب أئمتنا وعلمائنا التي ألفت أيام كان العلم حيا في الأمة، فكان يسعى لذلك سعيه، فقامت الجمعية بإعادة نشر وتحقيق عدد من أمهات كتب التراث العربي والإسلامي، ومنها كتب "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" و"المخصص" و"فتوح البلدان" وغيرها.

آمال تخترق حاجز الموت

لم تتوقف جهود الإمام ولا آماله في مسألة التعليم عند حدود المدارس، بل امتدت إلى تأسيس جامعة أهلية تحقق النهضة التعليمية التي كان ينشدها، لكن عمر الإمام لم يتسع لإتمام المشروعات التي كان يفكر فيها ويهيئ الأذهان لإعداد أسبابها، وضمان إقامتها ودوامها، وقد مرض الأستاذ الإمام مرض الوفاة، فلم يشغله المرض عن إعداد العدة لهذا المشروع الكبير، وزار صديقه أحمد المنشاوي باشا واستزاره غير مرة، للبحث في وسائل بناء الجامعة، وضمان الموارد اللازمة التي ينفق منها عليها، وعلى الرغم من أن الموت كان أسرع من تحقيق ذلك الأمل، فإن المشروع كتب له الحياة والوجود على أيدي تلامذته، فلم تمت الآمال في ذلك بموته.


كاتب وخبير متخصص بالقضايا التنموية بالعالم العربي.

لمتابعة النص الأصلي على إسلام أون لاين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق