السبت، 22 أغسطس 2009

فهمي هويدي يكتب: قراءة غير بريئة للتغيير في مصر









لا نستطيع أن نغفل القراءات الإسرائيلية للوضع في العالم العربي، خصوصا ما صدر منها عن مسؤولين كبار يتربعون على رأس المؤسسة الأمنية. هذه قراءة أحدهم لاحتمالات الوضع في مصر.

1

يستحيى المرء أن يذكر أن أحد أسباب الاهتمام بما يقوله هؤلاء، رغم ما نكنه لهم من بغض، إنهم في بعض الأحيان يعرفون عنا أكثر مما نعرف نحن، الأمر الذي يدفعهم إلى الإدلاء بمعلومات تعد عندنا من الأسرار المحجوبة عن الرأي العام، فضلا عن أن ما يقولونه يفصح عن بعض ما يخططون لنا ويدبرونه.

"
إسرائيل وهى تسعى إلى تمتين صلاتها مع القاهرة بحيث تقوم على مرتكزات ثابتة، فإنها شديدة الحرص على نسج علاقة خاصة مع أقوى شخصيتين بالبلد ستتوليان السلطة بعد رحيل الرئيس مبارك هما جمال مبارك ورئيس المخابرات العامة عمر سليمان الذي أصبح له حضوره الواسع داخل مصر وخارجها
"
وحين يأتي ذلك على لسان مسؤولين في أهم مؤسسة بالدولة، فإنه يكتسب أهمية خاصة، تسوغ أن يؤخذ الكلام على محمل الجد، لأنه يصبح معبرا عن معلومات ومواقف الدولة، ولا ينبغي أن يستقبل بحسبانه آراء أو اجتهادات شخصية.

أتحدث عن محاضرة ألقاها في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي آفي ديختر حين كان وزيرا للأمن الداخلي، وتحدث فيها بإسهاب عن رؤية إسرائيل للأوضاع في المنطقة، بتركيز خاص على سبع دول من بينها مصر والسودان، ومعها فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وإيران.

المحاضرة ألقيت يوم الخميس الرابع من سبتمبر/ أيلول الماضي، قبل العدوان على غزة، وقبل انتخاب الرئيس الأميركي باراك أوباما، وحين كان إيهود أولمرت رئيسا للحكومة الإسرائيلية.

على المستوى الإخباري تبدو المحاضرة قديمة نسبيا، لكنها تظل طازجة ومحتفظة بأهميتها من زاوية التحليل السياسي. فقد مرت عدة أسابيع قبل أن يتسرب نص المحاضرة التي ألقيت بالعبرية، وحين ترجمت إلى العربية فقد استغرق ذلك وقتا آخر، وعندما وقعت عليها بعد ذلك، فإنني ترددت طويلا في نشر مضمونها، نظرا لحساسية المعلومات الواردة فيها. إلا أنني تشجعت بعد ذلك حين حلت مناسبة مرور ثلاثين عاما على المعاهدة المصرية الإسرائيلية، وتطرقت الصحف المصرية إلى ملف العلاقات مع إسرائيل بكلام لامس الخطوط الحمراء ورفع الحرج عن بعض عناوينه، الأمر الذي ضيّق من مساحة المحظورات ووسّع من هامش المباحات.

ومن ثَم فتح الباب لاستعراض المعلومات التي تضمنتها المحاضرة. ولعلي لست بحاجة للتنبيه إلى أن هذه المعلومات لا ينبغي أن نُسلم بصحتها على طول الخط، ولكنها تظل قابلة للمراجعة والتصويب فضلا عن النقض بطبيعة الحال.

2

وهو يقدم تصوره للعلاقة مع مصر، فإن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي حرص على القول إن البلدين "ينعمان" بسلام شامل وعلاقات أكثر من طبيعية.

وهذه الخلفية التي تعيها جيدا القيادتان السياسية والأمنية، بلورت محددات للسياسة الإسرائيلية إزاء مصر تمثلت في ضرورة تعميق وتوطيد العلاقات مع الرئيس حسني مبارك، والنخب الحاكمة سواء في الحكومة أو الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، مع توجيه اهتمام خاص إلى رجال السياسة ورجال الأعمال والإعلام، يقوم على المصالح المشتركة التي تحقق مصالح الجانبين.

وفى هذا السياق تحتل العلاقة مع النخب الإعلامية المصرية مكانة خاصة، بالنظر لأهمية دور وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام وبلورة اتجاهاته.

استطرد ديختر قائلا إن إسرائيل وهى تسعى إلى تمتين صلاتها مع القاهرة بحيث تقوم على مرتكزات ثابتة، فإنها شديدة الحرص على نسج علاقة خاصة مع أقوى شخصيتين في البلد، هما اللتان ستتوليان السلطة بعد رحيل الرئيس مبارك. وهاتان الشخصيتان هما جمال مبارك نجل الرئيس، ورئيس المخابرات العامة عمر سليمان الذي أصبح له حضوره الواسع داخل مصر وخارجها.

وأشار في هذا الصدد إلى أن من مصلحة إسرائيل الحفاظ على الوضع الراهن، ومواجهة تطورات لا تحمد عقباها، إذا حدثت تحولات مناقضة لتقديراتها المبنية على أن السلطة في المستقبل سوف تنتقل من الأب إلى الابن.

سيناريوهات المستقبل في مصر كانت وما تزال، أحد الموضوعات التي تدور حولها مناقشات مستمرة في أروقة السلطة. عبر عن ذلك آفي ديختر حين قال في محاضرته إنه منذ توقيع معاهدة كامب ديفد عام 1979، وأحد الأسئلة الشاغلة للعقل الإسرائيلي هو كيف يمكن الحيلولة دون حدوث تغيير دراماتيكي في مصر؟

في الرد على السؤال قال إنهم حددوا سيناريوهات التغيير الدراماتيكي في ثلاثة احتمالات: الأول أن تتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر، وتفقد الحكومة السيطرة على الموقف، مما قد يفضى إلى اضطرابات تمكن الإخوان المسلمين من الوصول إلى السلطة.

الثاني أن يحدث انقلاب عسكري بسبب سوء الأوضاع العامة، تقوده عناصر شابة طموحة تركب الموجة وتستولي على السلطة. وهناك أسباب وجيهة تستبعد هذا الاحتمال.

الثالث أن يعجز خليفة مبارك، سواء كان ابنه أو رئيس المخابرات العامة عن مواجهة الأزمة الداخلية، مما قد يجر البلاد إلى الفوضى والاضطرابات.

وفى هذه الحالة قد يكون الخيار الأفضل أن تجرى انتخابات عامة تحت إشراف دولي، تشارك فيها حركات أكثر أهمية من حركة كفاية مما يؤدى إلى ظهور خريطة جديدة للتفاعلات الداخلية.

3

"
الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في مصر تصنف على أنها من النوع غير القابل للحل. لذلك فإن كل الإجراءات والإصلاحات التي اتخذت في عهد الرئيس مبارك لم تعالج الخلل الموجود. وهو ما أعاد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ثورة يوليو/ تموز 1952
"
من استعراض هذه الاحتمالات الثلاثة استطرد آفى ديختر قائلا:
• إن عيون إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة مفتوحة على ما يجرى في مصر، وهما ترصدان وتراقبان ومستعدتان للتدخل من أجل كبح جماح هذه السيناريوهات، التي ستكون كارثية بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب.

• من وجهة النظر الإسرائيلية فإن انسحاب مصر من اتفاقية السلام وعودتها إلى خط المواجهة مع إسرائيل يُعد خطا أحمر، لا يمكن لأي حكومة إسرائيلية أن تسمح بتجاوزه. وهي ستجد نفسها مرغمة على مواجهة هذا الموقف بكل الوسائل..

• لأن المؤشرات الميدانية تبين أن النظام في مصر يعاني الآن من عجز جزئي عن السيطرة على الوضع بصورة كافية، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل تسهمان في تدعيم الركائز الأساسية التي يستند إليها النظام. ومن بين هذه الركائز نشر نظام للرقابة والرصد والإنذار، قادر على تحليل الحيثيات التي يجري جمعها وتقييمها، ووضعها تحت تصرف القيادات في واشنطن وتل أبيب وحتى في القاهرة.

• تحرص الولايات المتحدة وإسرائيل عبر ممثلياتهما المختلفة في مصر (السفارات والقنصليات والمراكز الأخرى) على إسناد حملة جمال مبارك للفوز بتأييد الشارع والرأي العام المصري ودعم أنشطته المختلفة الاجتماعية والثقافية، ليكون أكثر قبولا من والده في نظر المصريين.

• من قبيل تحصيل الحاصل، القول إن لدى الولايات المتحدة وإسرائيل إستراتيجية استباقية لمواجهة أي متغيرات في مصر. ذلك فإن واشنطن بعدما وطئت أقدامها مصر بعد رحيل الرئيس عبد الناصر وتولي السادات زمام السلطة، أدركت أنه لابد من إقامة مرتكزات ودعائم أمنية واقتصادية وثقافية، على غرار ما فعلته في تركيا منذ الحرب العالمية الثانية. وانطلاقا من ثقتها بهذه الركائز وقدرتها على لجم أية مفاجآت غير سارة، فإن واشنطن تبدو أقل قلقا وانزعاجا منا إزاء مستقبل الأوضاع في مصر.

• الثقة الأميركية تعتمد على عدة عوامل منها ما يلي: إقامة شراكة مع القوى والفعاليات المؤثرة والمالكة لمختلف عناصر القوة والنفوذ، من رجال السلطة إلى رجال الأعمال والإعلام (شراكة أخرى مع الأجهزة الأمنية باختلاف مستوياتها، تأهيل محطات إستراتيجية داخل المدن الرئيسية التي هي مراكز صنع القرار في مقدمتها القاهرة والإسكندرية) والاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز في النقاط الحساسة بإمكانها الانتشار خلال بضع ساعات للسيطرة على مراكز عصب الحياة بالعاصمة، مرابطة قطع بحرية وطائرات أميركية في قواعد خاصة بها للتحرك عند اللزوم.

4

في تقدير آفى ديختر فإن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في مصر تصنف على أنها من النوع غير القابل للحل. لذلك فإن كل الإجراءات والإصلاحات التي اتخذت في عهد الرئيس مبارك لم تعالج الخلل الموجود. وهو ما أعاد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ثورة يوليو/ تموز 1952.

ذلك أن سيطرة رأس المال ورجال الأعمال على الحياة السياسية والاقتصادية أحدثت استقطابا بين الشرائح الاجتماعية، حيث أصبحت هناك أقلية لا تتجاوز 10٪ تتحكم في السلطة والثروة، مقابل أغلبية ساحقة في الطبقة الدنيا التي تعاني من الفقر أو تعيش تحت خط الفقر.

هذا الوضع يثير مخاوف النظام القائم، كما يثير مخاوف حلفائه وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ذلك أن أي متغير في مصر من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على البيئة الإقليمية في المنطقة بأسرها.

مع ذلك من الواضح أن النظام القائم في مصر أثبت حتى الآن كفاءة وقدرة ليس فقط على احتواء الأزمات، ولكن أيضا على التكيف مع الأوضاع المأزومة.

"
تمسك إسرائيل بتجريد مسافة بعمق 350 كلم من السلاح في سيناء يظل ضمانا لن تتخلى عنه تحت أي ظرف
"
ورغم أن ثمة تنسيقا كافيا بين واشنطن وتل أبيب لمواجهة جميع الاحتمالات، فإن إسرائيل لها تصورها الخاص في التعامل مع متغيرات الوضع في مصر. إذ هي مستعدة لمواجهة أي طارئ بما في ذلك العودة إلى "احتلال" شبه جزيرة سيناء "إذا استشعرنا أن تلك المتغيرات من شأنها أن تحدث انقلابا في السياسة المصرية إزاء إسرائيل. ذلك أننا حين انسحبنا من سيناء ضمنا أن تبقى رهينة".

وهذا الارتهان تكفله ضمانات أميركية من بينها السماح لإسرائيل بالعودة إليها إذا اقتضى الأمر ذلك. ثم إن هناك قوات أميركية مرابطة في سيناء تمتلك حرية الحركة والقدرة على المراقبة، بل ومواجهة أسوأ المواقف وعدم الانسحاب تحت أي ظرف.

تعلمنا من تجربة عام 1967 دروساً لا تُنسى (هكذا قال ديختر) فسيناء مجردة من السلاح ومحظور على الجيش المصري الانتشار فيها. وتلك هي الضمانة الأقوى لاحتواء أي تهديد افتراضي من مصر.

ولم يعد سرا أن الموافقة على إدخال ستمائة من أفراد الشرطة وحرس الحدود والأمن المركزي المصري إلى سيناء للتمركز حول حدود قطاع غزة، لم تتم إلا بعد دراسة مستفيضة من جانب الطاقم الأمني وبعد مخاض عسير داخل الحكومة الإسرائيلية.

وفى كل الأحوال فإن تمسك إسرائيل بتجريد مسافة بعمق 350 كلم من السلاح في سيناء، يظل ضمانا لن تتخلى عنه تحت أي ظرف.

وهو ينهى حديثه في الشأن المصري، قال آفى ديختر إن القاعدة الحاكمة لموقفنا هي أن مصر خرجت (من الصف العربي) ولن تعود إلى المواجهة مع إسرائيل. وذلك موقف يحظى بالدعم القوي والعملي من جانب الولايات المتحدة.

سواء كانت هذه معلومات أو تهويمات وأمنيات، فإنها تستحق القراءة المتمعنة والتفكير الطويل من جانبنا، لكنها تتطلب رداً وتفنيداً من جانب جهات القرار المعنية في مصر التي أساء إليها الكلام أيما إساءة.

في الأسبوع القادم بإذن الله نستعرض الكلام الخطير الذي قيل عن بقية الدول العربية.

النسخة الأصلية للمقال علي الجزيرة نت .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق